للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .


= إذا نظرنا إلى كل ما تقدم رأينا أن الجمع بين الأدلة ممكن على هذا الوجه المتقدم، وبذلك يزول التعارض بينها ويترجح القول بأن الحدود كفارات لذنوبها إذا انضم إليها توبة.
و"هل الكفارات زواجر أو جوابر"
قبل الكلام على ذلك يجب علينا أن نعرف ما هي الزواجر وما هي الجوابر حتى يمكننا أن نلحقها بهما أو بأحدهما فنقول:
الزواجر: جمع زاجر وهو ما شرع لدرء المفاسد والغالب فيه أن يكون لعصيان من المكلفين، وقد يكون لا إثم فيه كزجر الصبيان، فإن الغرض من ذلك تأديبهم ودرء مفاسدهم واستصلاحهم ولا إثم عليهم لأنه مرفوع عنهم لحديث "رفع القلم عن ثلاث وعدَّ منها الصبي".
والجوابر: جمع جابر وهو ما شرع لاستدراك ما فات من المصالح وليس بلازم فيمن يتوجه إليه الجبر أن يكون آثمًا، فان الجبر يشرع مع العمد والخطأ والعلم والجهل والذكر والنسيان والصبا والجنون.
ولا خلاف بين الفقهاء في أن بعض الكفارات جوابر ككفارة الخلق، وإنما الخلاف بينهم في بعض آخر مثل كفارة الظهار والحنث في اليمين وإفساد الصوم في رمضان عمداً.
فمنهم من قال إنها زواجر ولا بد معها من التوبة، كالحدود وهم أصحاب الرأي ومن وافقهم، لأن فيها تعذيبًا للبدن بالصوم، وانتزاعًا للمال من يده، وهو شقيق الروح تحرص النفس عليه كما تحرص على الروح وذلك يترك في النفس أثراً يمنعها عن معاودة المعصية مرة أخرى ويجعل الغير حريصًا على ألا يقع في تلك المعصية.
والجمهور ومنهم الشافعية في الراجح من مذهبهم على أنها جوابر لأنها لا تخرج عن الصوم والإطعام وعتق الرقبة وهذه كلها عبادات لا بد فيها من النية، والتقرب إلى الله تعالى بها لا يعتبر زاجرًا، والفرق بينها وبين الحدود واضح فإن الحدود أفعال تقع من الغير على المذنب فليست فعلاً له، والشأن فيها أن تكون ظاهرة للناس شائعة بينهم، وذلك مما يجعل الزجر فيها محققاً.
ونحن لا نرى إلا أنها زاجرة جابرة، أما كونها زاجرة فلقوله تعالى في كفارة قتل الصيد {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} فإن إذاقة وبال الأمر دليل واضح على أن هذه الكفارة إنما شرعت للزجر، وقوله جل شأنه في كفارة الظهار {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} دليل على ما ذكر أيضاً، وخصوصاً إتيانه تعالى بالفعل الدال على الرقبة بالإيمان, كما قيدها به في كفارة القتل، فكان ذلك منشأ لاختلاف الفقهاء في أن وصف الإيمان معتبر في عتق الرقبة، أو غير معتبر فيها، وقد تقدم ذلك مفصلاً في كفارة اليمين. كما تقدم ما يتعلق بهذا النوع، فلا نعيده دفعاً للتكرار غير أن تحرير الرقبة في الظهار يختص بأمر زائد، وهو أن يكون قبل أن يتماس المظاهران، فإن حصل تماس، وكفر أجزأه ذلك وأثم فعدم الْمَسِّ شرط لنفي الإثم لا لعدم الإجزاء، وسقوط الكفارة لما ثبت بالسنة الصحيحة.
أخرج أبو داود، والترمذي، وغيرهما أن سلمة بن صخر البياضي ظاهر من امرأته فَوَقعَ عليها قبل أن يكفر فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ " فَقَالَ رَأَيتُ خلْخَالَهَا في ضَوْءِ الْقَمَرِ. قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "فَاعْتَزِلَهَا، حَتَّى تُكفر"، فحكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بوجوب الكفارة على من وطئ قبل أن يكفر.
صيام شهرين متتابعين:
(١) هذا هو النوع الثاني من أنواع الكفارة في الظهار، ولا ينتقل المكفر إليه إلا بعد عدم وجود رقبة صالحة للعتق، أو بعد العجز عن ثمنها إن وجدها، وهذا محل اتفاق بين العلماء لِقَولِهِ تَعَالَى: =

<<  <  ج: ص:  >  >>