للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .


= كان على ما كان حتى يرد دليل على خلافه مثل الآية التي أثبتت حرمة النكاح بالرضاع، ولهذا لم يثبت بعض الأئمة الحرمة إلا للأمهات والأخوات للتنصيص عليهن دون ما عداهن على ما يأتي. ولا يقال إن الآية التي دلت على التوارث دلت بعمومها على الارث بالرضاع؛ لأن الآيات إنما دلت على التوارث بخصوص النسب كما يفهم ذلك من الإضافة في نحو قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} لأن الولد حين الإطلاق إنما ينصرف إلى ولد النسب، ولا يطلق على ولد الرضاع إلا مقيداً فيقال: ولد مِنْ الرضاعة، وابن من الرضاع، وكذا يقال في سائر الأحكام من النفقة والعتق بالملك ... الخ.
ولقد كان لحرمة الرضاع في الجاهلية حق مرعي حكى محمد بن إسحاق أنه لما سبيت هوازن قبيلة السيدة حليمة السعدية مرضعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وغنمت أموالهم بحنين، قدمت وفودهم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقام فيهم زهير بن صُرَد فقال يا رسول الله: "إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن أرضعنك ويكفلنك ولو أملجنا "أرضعنا" للحارث بن أبي شمر أو النعمان بن المنذر ثم نزل منا بمثل ما نزلت به رجونا عطفه وتأييده وعائدته وأنت خير المكفولين ثم أنشد:
امنن علينا رسول الله في كرم ... فإنك المرء نرجوه وننتظرُ
امنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذ فوك يملؤه من مخضها الدرر
أن لم تدراكنا نعماك ننشرها ... يا أرجح الناس حلما حين يختبر
إنا لنشكر آلاءً وإن كفرت ... وعندنا بعد هذا اليوم مدخرُ
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤكُمْ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ أَمْ أَمْوَالُكُم؟ " فقالوا خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا بل ترد علينا أبناءنا ونساءنا فقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَا كَانَ لِي وَلِبَني هَاشِم فَهُوَ لَكُمْ" فحفظ -صلى الله عليه وسلم- حرمة الرضاع، وأكرمهم لأجله، وجرى على ما عهده العرب من غير إثبات لحرمة السبب، ولا حكم بتحريم النكاح، ولا بالمحرمية (حتى أتى الكتاب بذلك) حتى أنزل الله في شأن الرضاع ما أنزل.
وأيضاً فقد روى أبو الطفيل أنه قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقسم لحماً بالجعرانة، إذ أقبلت امرأة فدنت إليه فبسط لها صلى الله عليه رداءه فجلست عليه فقلت من هذه؟ قالوا أمه التي أرضعته. فدل هذا الخبر على أن المرضعة تكون أمّاً.
وروى محمد بن إسحاق أن الشما بنت الحرث بن عبد العزى كانت في سبي هوازن -وهي أخت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الرضاعة- فجيء بها حتى أنتهت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي تقول: أنا أخت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الرضاعة فعرفها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبسط لها رداءه وأجلسها عليه وخيرها بين المقام عنده مكرمة أو الرجوع إلى قومها ممتعة فاختارت أن يمتعها وترجع إلى قومها ففعل.
حرم النكاح بالرضاع:
لما أشبه اللبن الذي يتغذى به الرضيع، وتقوم به بنيته، وتشيد به أركانه المنى تمام الشبه في أن كلا صار جزءاً من الرضيع كانت الحكمة في تحريم نكاحه هي الحكمة في تحريم النسب، وهي المحافظة على احترامهن، وعدم إهانتهن، ولا يخفى ما يشتمل عليه النكاح من الذل والإهانة، ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: "النِّكَاحُ رِقٌّ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ عِنْدَ مَنْ يُرِقُّ كَرِيْمَته" ولولا أن الله -سبحانه وتعالى- أودع في المرأة الشهوة وجعلها في حاجة إلى الرجل شديدة ما استفرشت أنثى لرجل قط. =

<<  <  ج: ص:  >  >>