وقال المزنيُّ: تجب الدية؛ لأن استقرار الجناية باندمالها، فلا يعتبر العَفْو قبل الاستقرار، ولا فرق في هذه الحالة بيْن أن يقتصر على قوله عَفَوْت عن موجبها، وبين أن يزيد فيقول:"وعما يحْدُثُ منها"، فإنه لم يحدُث منها شيءٌ ولو قال: عفَوْتُ عن هذه الجناية، ولم يزد فعن نصه -رضي الله عنه- في "الأم": أنَّه عفو عن القَوَدِ، وعن الأصحاب: أنَّه مفرَّع على قولنا: إن موجِبَ العمْد القَوَدُ، أما إذا قلنا: إن وجبه أحَدُ الأمرين، ففي بقاء الدية احتمالانِ للقاضِي الرويانيِّ.
الثانية: إذا سَرَى القطع إلى النْفس، فلا قصاص في النفْس، كما لا قصاص في الطَّرَف؛ لأن السراية تولَّدت عن معْفُوٍّ عنه، فصارت شبهةً دافعةً، وأيضاً، فقد عفا عن الطَّرف، فلا يمكن استيفاء النفس إلا باستيفاء الطَّرَف، وعن أبي الطيِّب بن سلمة: أنَّه يجب القصاص في النفس؛ لأن المعفُوَّ عنه قصاصُ الطَّرَف دون النفْس، وسقوط القصاص في الطَّرَف لا يوجب سقوطَهُ في النفس؛ ألا ترى أنَّه لو استوفَى قصاص الطَّرَف، ثم مات المجنيُّ عليه بالسراية، وجب قصاص النفْس، فليكنِ السقوطُ بالعفْو كالسقوط بالاستيفاء، ويُحْكَى هذا عن تخريج ابن سريج، وعلى هذا قال القاضي ابن كج: لو عفا عن القصاص، لم يكن له إلا نصْف الدية؛ لسقوطِ النصْف بالعفْو عن أرْش اليد، والصحيحُ الأوَّل، وأما المالُ؛ فأما أرْش اليد، فيُنْظَر؛ إن جرى لفْظ الوصية؛ بأن قال: أوصَيْتُ له بأرشِ هذه الجناية، فإذا ماتَ من الجناية، فقد صارت الوصيَّةُ وصيةً للقاتل، وقد سبَقَ الخلافُ فيها، فإنْ لم نصححها فعليه أرش العضْو المقطوع، وإن صحَّحناها، فإن خرج الأرْش من الثَّلُث، سقَطَ، وإلا، نفذَتِ الوصية في قدْر الثلث، وإنْ جرى لفْظُ العفْو أو الإبراء أو الإسقاطِ؛ بأن قال: عفَوْت عن أرْش هذه الجناية أو أبرأتُه أو أسْقَطتُه، فحُكمها حكْمُ الوصية أم لا؟ فيه طريقان:
أحدهما: نعم؛ بدليل الاعتبار من الثلُث؛ فعلَى هذا يعود الخلافُ في الوصية للقاتل.
وأصحُّهما: لا؛ لأنه إسقاط حقٍّ ناجز، والوصيةُ هي التي تتعلَّق بحال الموت؛ فعلَى هذا يسقُطُ، ولا يجيء فيه القولاَن، وأمَّا الزيادة على أرْش اليد إلى تمام الدية، فهي واجبة، إن اقتصر على العفْو عن موجب الدية، ولم يتعرَّض لِمَا يتولَّد منها، وإن تُعرَّض لِمَا يتولَّد منها أيضاً، نُظِر إن تعرَّض بلفْظ الوصية؛ بأن قال: أوصيتُ له بأرش هذه الجناية وضمان ما يَحْدُث منها أو يتولَّد أو يسري إليه، فيُبْنَى على أن الوصيَّةَ للقاتل هل تصحُّ، وَيجِيْءُ في جميع الدِّيَة ما ذكَرْنا في دية العضْو المَقْطُوع، وإنْ قال: عفوت عنه، أو أبرأته عن ضمان ما يحْدُث أو أسقطْتُه، ففي اعتبارها فيما يحْدُث قولان نقَلَهما ابن الصبَّاغ وغيره.