للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما إذا قال: قَتَلَهُ واحِدٌ من أهل القَرْيَةِ أو المَحِلَّةِ، وهم لا يَنْحَصِرُونَ، وطَلَبَ إِحْضَارَهُمْ فلا يُجَابُ؛ لأنه يَطُولُ فيه العَنَاءُ على القاضي، وَيتَعَطَّلُ زَمَانُهُ في خُصُومَةٍ واحدة، وتَتَأَخَّرُ حُقُوقُ سائر الناس، ولأن في إحضار الجَمْع الكَبِيرِ إِضْرارًا بهم لِقَطْعِ مَعايِشِهِمْ، وتَعْطِيلِ زمانهم، وقد يفهم هذا من التصوير في العشرة.

قال الغَزَالِيُّ: الثَّانِي أنْ تَكُونَ مُفَصَّلَةً فِي كَوْنِهِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً أَوْ مُشْتَرِكَةً، فَإنْ أَجْمَلَ اسْتَفْصَلَ القّاضِي، وَقِيلَ: يُعْرَضُ عَنْهُ لِأَنَّ الاسْتِفْصَالَ تَلْقِينٌ، وَلَوْ قَالَ: قُتِلَ أَبِي خَطَأً مَعَ جَمَاعَةٍ وَلَمْ يَحْصُرُهُم لَمْ يُسْمَعْ إِذْ حِصَّتُهُ مِنَ الدِّيَةِ لا تَتَبَيَّنُ، وَلَوِ ادَّعَى العَمْدَ وَقُلْنَا: مُوجِبُهُ القَوْدُ المَحْضُ سُمِعَ، وَإِنْ قُلْنَا: أَحَدٌ لا بِعَيْنِهِ فَوَجْهَانِ.

قَالَ الرَّافِعِيُّ: لتكن الدَّعْوَى مُفَصَّلَةً (١)، أَقَتَلَ عَمْدًا، أو خَطَأً، أو عَمْدَ خَطأٍ، مُنْفَرِدًا أو بِشَرِكَةِ غيره، فإن الأحكام تَخْتَلِفُ باختلاف هذه الأَحْوَالِ، والواجب تَارَةً يَتَوَجَّه على القاتل، وأُخْرَى على عَاقِلَتِهِ، فلا يمكن فَضْلُ الأمْرِ ما لم يُعْلَمْ مَنْ يُطَالَبُ؟ وبم يُطَالَبُ؟ وفيه وجه سنذكر مَأْخَذَهُ: أنه يجوز أن تكون الدَّعْوَى مَجْهُولَةً.

وإذا منعنا -وهو المذهب المشهور- فلو أجمل الوَلِيُّ دَعْوَى القَتْلِ، ففيه وجهان:

أحدهما: أن القاضي يُعْرِضُ عنه، ولا يَسْتَفْصِلُ؛ لأن الاسْتِفْصَالَ ضَرْبٌ من التَّلْقِينِ.

وأصحهما: أنه يَسْتَفْصِلُ، والقول بأن الاسْتِفْصَالَ تَلْقِينٌ ممنوع، بل التلقين أن يقول له: قُلْ: قَتَلَهُ عَمْدًا أو خَطَأً، والاسْتِفْصَالُ أن يقول: كيف قُتِلَ؟

وهذا الوجه الثاني هو الذي أَوْرَدَهُ الجمهور، ونَصَّ عليه الشَّافعي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في "المختصر"، حيث قال: ينبغي لِلْحَاكِمِ أن يقول له: من قَتَلَ صاحِبَكَ؟، فإن قال: فُلاَنٌ، قال: وَحْدَهُ؟، فإن قال: نعم، قال: عَمْدًا أو خطأ؟، فإن قال: عَمْدًا، يسأله (٢): ما العَمْدُ؟.

وربما يُوجَدُ في إِيرَادِ الأئمة ما يُشْعِرُ بوجوب الاسْتِفْصَالِ هكذا قال القاضي الروياني بعد ما نَقَلَ نَصَّ الشَّافعي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه يَسْتَفْصِلُ في الأشياء الأربعة.

وقال الماسَرْجَسِيُّ: لا يجب على الحَاكِمِ أن يُصَحِّحَ دَعْوَاهُ، ولا يلزمه أن يسمع


(١) قال في القوت: يستثنى من اشتراط التفصيل السحر فإنه مما يخفى فعله من الساحر وفعله من المسحور فلا يمكن الوصف في الدعوى على الساحر، فإذا ادعى على ساحر أنه قتل وليه بالسحر لم يستوصف بل يسأل الحاكم الساحر ويعمل ببيانه، ونقله عن الماوردي.
(٢) في ز: سأله.

<<  <  ج: ص:  >  >>