للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولو أقر على نفسه بالزنَا، ثم رجع عنه، سقط الحدُّ، وبه قال أبو حنيفة وأحمد؛ لما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال في قصَّة مَاعز: "لَعَلِّكَ قَبَّلْتَ، لَعَلِّكَ لَمَسْتَ" (١) وهذا كالتعرّض بالرجوع، وعن مالك روايتان في قبول الرجُوع، وهل يُستحبُّ له الرجوع؟ فيه وجهان يُقَاسُ أحدهما باستحباب السِّتْر في الابتداء، ويُفْرَق في الثاني بأن الهَتْك قد حَصَل هاهنا، فلا يقنع تكذيبه نفْسَهُ، ولو كان قد قال: زنيت بفلانة، فهو مقرُّ بالزنا، قاذفٌ لها، فإن أنكرتْ أو قالَتْ: كان قَد تزوَّجَني، فعليه حدُّ الزنا، وحدُّ القذف، فإن رَجَعَ، لم يسقُطْ حد القذف، ولو قال: زنيتُ بها [مُكْرَهَةً] لم يجب حدُّ القذف، ويجب مع حدِّ الزنا المَهْرُ، ولا يسقط المَهْر بالرجوع، ولو رجع عن الإقرار بعْد ما أقيم [عليه] (٢) بعضُ الحد ترك الباقي، ولو قتله قاتلٌ بعْد الرجوع، ففي وجوب القصاص وجهان، رواهما القاضي ابن كج، ورأى الأصحَّ أنه لا يجبُ، ونسبه إلى أبي إسحاق، لاختلاف العلماء في أنَّه هل يَسْقُط الحدُّ بالرجوع؟ ولو رجعَ بَعْد ما جُلِد بعْض الجلد، فأتَمَّ الإِمام الجلدَ، ومات منه، والإمام مِمَّن يرى سقوط الحدّ بالرجوع، فعن أبي الحُسَيْن روايةُ قَوْلَيْن في وجوب القصاص، فإن قلنا: لا يجب، فيجب نصف الدية، أو توزَّع على السياط؟ فيه قولان، قال القاضي ابن كج: وعنْدي لا قصاص قولاً واحداً؛ لأن الزهوق حصل مِنْ مباحٍ ومحظور.

والرجوع عن الإقرار؛ بأن يقول: كذبت أو رجعتُ عمَّا أقررتُ به أو ما زنَيْتُ أو كنْتُ فاخَذْتُ أو لَمسْتُ، فاعتقدته زناً؛ ولو شهد الشهود على إقراره بالزنا، فقال: ما أقررتُ أو قال، بَعْد ما حكَم الحاكمُ بإقراره، ما أقررتُ، فهذا تكذيبٌ للشهودِ وللقاضي، فلا يُلْتَفَت إليه، وعن أبي إسحاق، والقاضي أبي الطيب: أنه كما لو قال: رجعتُ أو ما زنَيْتُ؛ لأنه غير معترفٌ في الحال بوجوب الحدِّ عليه، ولو قال: لا تقيموا الحدِّ عليَّ أو هرب، أو (٣) امتنع من الاستسلام، فهَلْ يُقام ذلك مقام الرجوع؟ فيه وجهان عن صاحب "التقريب".

أحدهما: نعم؛ لاشعاره بالرجوع.

وأصحُّهما: لا؛ لأنه قد صرَّح بالإقرار، ولم يصرِّح بالرجوع، ولكن يُخلَّى في الحال، ولا يُتْبَع لقوله -صلى الله عليه وسلم- (٤) في خبر مَاعز: "فَهَلاَّ تَرَكْتُمُوهُ" والمعنى فيه أنه ربما قصد


(١) رواه البخاري من حديث ابن عباس بلفظ: لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت، قال: لا، قال: أنكتها؟ لا يكنى، قال: نعم، ورواه الحاكم من وجه آخر عن ابن عباس بلفظ: لعلك قبلتها، قال: لا، قال: لعلك مسستها، قال: لا، قال: ففعلت بها كذا وكذا. ولم يَكْنِ، قال: نعم.
(٢) سقط في ز.
(٣) في ز: و.
(٤) تقدم.

<<  <  ج: ص:  >  >>