للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رأى الجَلْدَ فلا بد وأن يَنْقُصَ عن الحَدِّ، كما تَنْقُصُ الحُكُومَةُ عن الدِّيَّةِ، والرَّضْخُ عن السَّهْمِ. ثم هل يُفَرَّقُ بين مَعْصِيَةٍ ومعصية؟ فيه وجهان:

أحدهما: نعم، وتُقَاسُ كُلُّ معصية بما يُنَاسِبُهَا في الجِنَايَةِ الموجبة للحدود، فَتَعْزِيرُ مُقَدِّمَاتِ الزِّنَا والوَطْءِ الحَرَامِ الذي لا يُوجِبُ الحَدَّ يَنْقُصُ عن حَدِّ الزنا، لاَ عَنْ حَدِّ القَذْفِ والشرب، وتعزير الإيذاء (١) والسَّبِّ بما ليس بِقَذْفٍ يَنْقُصُ عن حَدِّ القَذْفِ، لا عن حد الشرب، وتعزير إِدَارَةِ كَأْسِ المَاءِ على الشُّرْب، تَشْبِيهاً بشاربي الخَمْرِ يَنْقُصُ عن حد الشرب، اعتباراً لكل [نوع بغاية الزَّاجِرِ] (٢) المشَروع في جِنْسِهِ، وقرب هذا من قولنا: إن حُكُومَةَ الجِنَايَةِ الواردة على عُضْوٍ تُعْتَبَرُ بِأَرْشِ ذلك العضو، وبهذا الوجه قال القَفَّالُ، واختاره القاضي الرُّوَيانِيُّ في "الحلية".

وذكر الإِمام تفريعاً عليه أن تَعْزِيرَ مقدمات السَّرِقَةِ يعتبر بأغلظ حُدُودِ الجَلْدِ، وهو (٣) حد الزنا؛ لأن القَطْعَ أَبْلَغُ من مائة جَلْدَةٍ، وأن تعزير الحُرِّ يعتبر بِحَدِّهِ، وتعزير العبد يُعْتَبَرُ بِحَدِّهِ؛ لأن اعتبار حال المُعَزَّرين أَوْلَى من اعتبار تَنَاسُبِ الجِنَايَتَيْنِ. هذا أَحَدُ الوجهين وتفريعه.

والثاني: وهو الأظهر عند أكثرهم -أنه لا فَرْقَ بين مَعْصِيَةٍ ومعصية، [ويلحقُ] (٤) ما هو من مُقَدِّمَاتِ مُوجِبَاتِ الحد، وربما ليس من مُقَدِّمَاتَها. وعلى هذا وجهان:

أحدهما -وبه قال أبو عَلِيٍّ بْنُ أبي هُرَيْرَةَ والطبري: أنه (٥) لا يُزَادُ التَّعزيرُ على عَشْرِ جَلَدَاتٍ لما رُوِيَ عن أبي بُرْدَةَ بن نِيَارٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال (٦): "لاَ يُجْلَدُ فَوْقَ العَشْرِ إِلاَّ في حَدٍّ" وبهذا قال صاحب "التقريب". وقال: الحديث صَحِيحٌ.

وقد اشتهر عن الشَّافِعِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه قال: مَذْهَبِي ما صَحَّ به الحديثُ.

وأظهرهما: أنه تجوز الزِّيَادَةُ على العَشْرِ، وإنما المَرعِيُّ النُّقْصَانُ عن الحَدِّ، والخبر على ما ذكر بَعْضُهُمْ أنه مَنْسُوخٌ، واحتجَّ بِعَمَلِ الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- بخلافه من غير إنْكَارٍ.


(١) في ز: الإيلاء.
(٢) سقط في ز.
(٣) في ز: وفي.
(٤) سقط في ز.
(٥) في ز: إذ.
(٦) متفق عليه، وتكلم في إسناده ابن المنذر والأصيلي من جهة الاختلاف فيه، وقال البيهقي: قد وصل عمرو بن الحارث إسناده، فلا يضر تقصير من قصر فيه، وقال الغزالي: صححه بعض الأئمة، وتعقبه الرافعي في التذنيب فقال: أراد بقوله بعض الأئمة صاحب التقريب، ولكن الحديث أظهر أن تضاف صحته إلى فرد من الأئمة فقد صححه البخاري ومسلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>