للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعن عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه كتب إلى أبي (١) مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ألا يَبْلُغَ بِنَكَالٍ [أكْثَرَ] (٢) من عشرين سَوْطاً -ويروى ثَلاَثِينَ إلى الأربعين وعلى هذا فالمُعْتَبَرُ أولى الحُدُودِ في حَدِّ المُعَزَّرِ، أو في الحدود على الإطلاق؟ فيه وجهان: ظاهر النَّصِّ- وهو الذي رَجَّحَهُ عَامَّةُ الأصحاب: أنه يعتبر الأدنى في حق المُعَزَّرِ، فلا يُزَادُ تَعْزِيزُ الحر على تِسْع وثلاثين جَلْدَةً ليكون دون حَدِّ الشُّرْبِ، وهو أربعون، ولا [يزيد] تَعْزِير العبد على تسع عشرة وَيتَفَاوَتَانِ في غاية التَّعْزِيرِ، كما تَفَاوَتَا في غاية الحَدِّ.

والثاني: أنه يعتبر أَدْنَى الحُدُودِ على الإطلاق، حتى لا يُزَادَ تَعْزِيرُ الحر على تسع عشرة أيضاً. وفي التهذيب وجه ثالث: وهو أن الاعتبار بحد الأَحْرَارِ، فلا يَبْلُغ حَدُّ الحر، ولا العَبْدِ أربعين، ويَجُوزُ ما دُون ذلك وعند مَالِكٍ: لا حَدَّ للتعزير، بل للإمام أن يَضْرِبَ كما شَاءَ وإن جاوز الحَدَّ، بل جَوَّزَ القَتْلَ لِلتَّعْزِيرِ والاسْتِصْلاحِ، ووجه المذهب ظاهر، وليكن التَّعْزِيرُ بِسَوْطٍ بين سَوْطَيْنِ، وضرب بين ضربين، كما في الحَدِّ.

وعن أبي حَنِيْفَةَ: أنه يَجْعَلُ ضَرْبَ التعزير أَشَدَّ، وفي الحُدُودِ ضرب الزنا أَشَدَّ، ثم حد الشرب، ثم حَدّ القَذْفِ. وقوله في الكتاب: "فيوجب التَّعْزِير" أي: يَقْتَضِيهِ، ويثبته، ولا ينبغي أن يُحْمَلَ على الوجوب بمعنى اللُّزُومِ، ففي تَرْكِ أصل التَّعْزِيرِ كَلاَمٌ سيأتي إن شاء الله تعالى. وعلى هذا يُحْمَلُ قوله: "أما موجبه" بعد قوله: "والنظر في مُوجِبهِ وقَدْرِهِ ومُسْتَوْفيه" وقوله بعد ذلك: "وأما أصل الوجوب" يُشِيرُ إلى ما ذكر في "الوسيط"، وهو أن النَّظَرَ في المُوجِبِ، والمُسْتَوْفي، والقَدْرِ، وأَصْلِ الوجوب، فحذف بعض التَّرْجَمَةِ.

واعلم أن في قوله: "وما عداها ومقدماتها، فيوجب التَّعْزِيرَ" فيه غُنْيَةٌ عن قوله: "وأما مُوجِبه ... " إلى آخره؛ لأن المقصود ما عَدَا الجِنَايَاتِ الموجبة للحد، وهي التي أَرَادَهَا بقوله: "فهو كُلُّ ما يعصي به العَبْدُ رَبَّهُ ... " إلى آخره ويجوز أن يُعْلَمَ قوله: "يحطُّ عن عشرين جَلْدَةً" بالميم، وكذلك الحُكْمُ في سائر الوجوه؛ لما ذكرنا أن عند مَالِكٍ -رحمه الله- لا حَدَّ لأكثره، وكذلك قوله: "ولا يَجُوزُ أن يقتل ... ".

قال الغَزَالِيُّ: (وَأَمَّا المُسْتَوْفِي) فَهُوَ الإِمَامُ والأَبُ وَالسَّيِّدُ وَالزَّوْجُ لَكِنَّ الأَبَ يُؤَدِّبُ الصَّغِيرَ دُونَ الكبِيرِ، وَمُعَلِّمُهُ أَيْضاً يُؤَدِّب بِإِذْنِهِ، والزَّوْجُ يُعَزِّرُ عَلَى النُّشُوزِ، وَالسَّيِّدُ يُعَزِّرُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى وَالزَّوْجُ لاَ يُعَزَّرُ إلاَّ في النُّشُوزِ، وَالتَّعْزِيرُ جَائِزٌ بِشَرْطِ سَلاَمَة العَاقِبَةِ، فَإنْ سَرَى ضَمِنَ عَاقِلَةُ المُعَزِّر بخِلاَفِ الحَدِّ، فَلَوْ كَانَتِ المَرْأَة لاَ تَتْرُكُ النُّشُوزَ إِلاَّ بِضَرْبٍ مَخُوفٍ لَمْ نَجزُ تَعْزِيرُهَا أَصْلاً.


(١) في ز: ابن.
(٢) سقط في ز.

<<  <  ج: ص:  >  >>