والثاني: أن أول حد الكثرة لا يؤثر كالكلام اليسير من الناسي، فإن أول حد الكثرة هو الذي يبطل عند التعمد، كالكلام الكثرِ عند التعمد، وما جاوز أول حد الكثرة وانتهى إلى السرف، فهو على الخلاف في الكلام الكثير ناسياً، والذي حكاه الجمهور من هذا الخلاف أنه لا فرق في الفعل الكثير بين العمد والسهو، وهو الذي يوافق ظاهر قوله:(الشرط الخامس ترك الأفعال الكثيرة) وفرقوا بينه وبين الكلام، بأن الفعل أقوى من القول، ولهذا ينفذ إحبال المجنون دون إعتاقه، قالوا: ولا يعارض هذا بأن القليل من الفعل محتمل، والقليل من الكلام غير محتمل؛ لأن القليل من الفعل لا يتأتي الاحتراز عنه، والْكَلاَمُ مما يتأتى الاحتراز عنه من النَوْعَين، -والله أعلم-. واعلم أنه يستثنى عن إبطال العمل الكثير الصلاة حال شدة الخوف، فيحتمل فيها الركض والعدو عند الحاجة، وهل يحتمل عند عدم الحاجة؟ فيه كلام مذكور في الكتاب في صلاة الخوف على ما سيأتي -إن شاء الله تعالى-.
وأما قوله:(ولا بمطالعة القرآن) فاعلم أنه لو قرأ القرآن من المصحف لم يضر، بل يجب ذلك إذا لم يحفظ الفاتحة على ما سبق، ولو قلب الأوراق أحيانًا لم يضر؛ لأنه عمل يسير.
وعن أبي حنيفة أنه لو قرأ القرآن من المصحف بطلت صلاته؛ لأن النظر عمل دائم، وعندنا لو كان ينظر في غير القرآن، ويردد في نفسه ما فيه لا تبطل صلاته أيضاً؛ لأن النظر لا يشعر بالإعراض عن الصلاة، وحديث النفس معفو عنه، وحكى القاضي ابن كج وجهاً أن حديث النفس إذا أكثر أبطل الصلاة، وقوله بعد:(مطالعة القرآن): (ولا بتحريك الأصابع في سُبْحَة، أو حكَّة على الأظهر) الوجهان المخصوصان بالتحريك، لا جريان لهما في مطالعة القرآن، فلا يتوهم من العطف غير ذلك.
قال الرافعي: السبب الداعي إلى إيراد هذا الفصل هاهنا الاستدلال بالأمر بالدفع على أن الفعل القليل لا بأس به في الصلاة، ثم يتعلق به مسائل مقصودة فجرت العادة بذكرها في هذا الموضع، والخبر المشار إليه ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا مَرَّ المَارَّ بَيْنَ يَدَيْ أَحَدِكُمْ، وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ فَلْيَدفَعْهُ فَإِنْ أَبَى فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيَدفَعْهُ فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّهُ