للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي كتاب "القاضي ابن كَجٍّ" حكايةُ قولٍ: أنه لا يلزمُه الانصرافُ ويتخير، كما لا يجب الانصرافُ على المرأَةِ إذا أذِن لها في السفر، وطلَّقَها بعد مُفَارقَةِ البلد، والمشهورُ الأوَّلُ. وإِنْ كان الرجوعُ بعد الشروع في القِتَالِ، ففي جَوَازِ الانْصِرافِ قَوْلاَنِ، أَوْ وجهان:

أَحدُهما: يجبُ؛ لأنَّ حقَّ الراجعِين عَنِ الإِذْن أَوْلَى بالرعاية؛ لأنه فرضُ عَيْنٍ، والجهادُ فرضٌ على الكِفَايةِ؛ لأن حَقَّهم أسبقُ؛ ولأن حُقُوقَ الأدمِيِّينَ مبنيةٌ على المضايقة، وهو أَوْلَى بالمحافَظَةِ.

والثاني: لا يجبُ؛ لأن مَنْ حضر الوقْعَةَ يلزمه الثَّبَاتُ، قال الله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: ٤٥] وَلِأَنَّ الانصراف يُشَوِّشُ أَمْرَ القتال، ويكْسِرُ القلُوبَ، ومنهم من يرتب على هذا الخِلاَفِ في أنه هل يجوزُ الانْصِرافُ.

قال الإمامُ: ويخرج مِنِ اخْتِلافِ العبادَتَيْنِ ثلاثةُ أوجهٍ:

أحَدُها: يجبُ الانصرافُ؛ لارتفاع الإِذْن.

والثاني: لا يجوزُ، بل تجب المصابرةُ.

والثالثُ: يتخيَّرُ بين الانصرافِ والمُصَابَرَةِ؛ لتعارض المعْنَيَينِ، ويُنْسب هذا إلى اخْتِيارِ القَاضِي الحُسين، ومال أَكْثرُهم إلى تَوْضِيح الثاني، وهو الجوابُ في "التهْذيبِ"، وهذه الوجُوهُ هي التي أَوْرَدها في الكتاب لكن لفظُ الوجْهِ الثاني، وهو أَنَّه لا يجبُ الانْصِرافُ غير وافٍ بتمام المقصُودِ؛ لأن مَقْصُودَ هذا الوجه أَنَّه تجب المُصَابرة، ولا يجوزُ الانصرافُ، ولا يلزم مِنْ أَلاَّ يجبَ ألاَّ يجوزَ، نَعَمْ في لفْظِ التَّخْيِير المذكُورِ في الوجه الثالِثِ، ما يفهم الغرض، فَإِنَّ المعْنَى التخييرُ بين الانصرَافِ والثُّبوتِ، وفي ذلك إشعارٌ بأنَّ الواجِبَ في وجه هذا وفي وجه هذا.

وحُكِيَ وجهٌ رابعٌ: أنه يجبُ الانصرافُ إنْ رجع رَبُّ الدَّيْن، ولا يرجع ولا يجب إِذَا رجع الوالد، والفرقُ عِظَمُ شَأْنِ الدَّيْنِ، والاحتياطُ للمظالم، ومن شرط عليه الاستئذان إذا خرج بغيرِ إذْنٍ لزمه الانصرافُ، ما لم يَشْرعْ في القِتَالِ؛ لأَنَّ سفره سفَرُ مَعْصِية إلاَّ أَنْ يَخَافَ على نفسه أَوْ مَالِه، كما سبق، وإِنْ شرع في القِتَالِ -فَوَجْهان بالترتيب. وهذه الصورةُ أَوْلَى بوجوب الانْصِراف؛ لأنَّ ابتداءَ الخُروجِ كان مَعْصِيةً، والعبدُ إذا خرج بغير إِذْنِ سَيِّده- لزمه الانصرافُ، ما لم يحضر الوقْعَة فإِنْ حضر فلا، قَالَهُ في التهذيب.

وقال القَاضِي الرُّويَانِي: يُسْتَحَبُّ له أَنْ يَرْجِع.

ولو مَرِضَ بعد ما خرج أو عرج أو فني زادُه، أو هلكت دابَّتُه، فهو بالخِيَارِ بين أن ينصرِفَ، أو يمضي ما لم يحضر الوقْعَة.

<<  <  ج: ص:  >  >>