أن يكون في الإِقْلِيم مُفْتٍ واحِدٌ؛ لعُسْرِ مراجعته على النَّاسِ.
واعتبر الأصحابُ فيه مسافةَ القَصْرِ، وكأَنَّ المُرَادَ أَلاَّ يزيدَ ما بين كل مُفْتِيَيْنِ على مَسافَةِ القَصْر، لئلا يحتاج مَنْ يراجع إلى قَطْعِ مسافة القصْرِ.
وفي العُلُومِ العقلِيّة ما هو فَرْضٌ على الكِفَايَةِ: كالطّبِّ المحتاج إِلَيْه في مُعَالجة الأَبْدَانِ، والحِسَابِ المحتاج إليه في المُعَاملاتِ، وقِسْمة الوَصَايَا والموَارِيث.
قال المصنِّفُ -رحمه الله- في "الإِحْيَاءِ": ولا يُسْتَبْعَدُ عَدُّ الطِّبِّ والحسَابِ من فُرُوضِ الكفايات، فَإِنَّ الحِرَفَ والصناَعات التي لا بُدَّ للناس منها في مَعَايِشِهمْ كالفِلاَحَةِ، والزِّرَاعَةِ مِنْ فرْوضِ الكِفَايَاتِ، والطبُّ والحسابُ أَوْلَى.
وأَمَّا أُصولُ الاعْتِقادَاتِ. فالاعتقادُ المستقِيمُ مع التصميم على ما ورد به القرآنُ والسنَّةُ فَرْضُ عينٍ، والعِلْمُ المُتَرْجَمُ بـ"عِلْمِ الكَلاَمِ" ليس بفرْضِ عَيْنٍ، وما كان الصحابةُ -رضي الله عنهم- يَشْتَغِلُون به.
قال الإمامُ: ولو بَقِيَ الناسُ على ما كانوا عليه في صَفْوةِ الإسلام -لما أوْجَبْنَا التشاغل به، ورُبَّمَا نَهَيْنَا عنه، فَأَمَّا الآن وقد ثارت البِدَعُ، فلا سَبِيلَ إلى تركها تَلْتَطِمُ، ولا بُدَّ مِنْ إِعْداد ما يُدْعَى به إلى المسْلَكِ الحقِّ وتُحَلُّ به الشُّبَهُ، فصار الاشتغالُ بأَدِلَّةِ العُقُولِ، وحلّ الشبه مِنْ فُرُوض الكِفَايَاتِ، ومَنِ اسْترابَ في أصْلٍ مِنْ أُصُول الاعتقاد، فعليه السَّعْيُ في إِزَاحته إلى أَنْ تَسْتَقِيم عَقِيدَتُه (١).
(١) قال النووي في زوائده: ولا يتعين تعلم كيفية الوضوء والصلاة وشبههما إلا بعد وجوب ذلك، فإن كان بحيث لو صبر إلى دخول الوقت لم يتمكن من إتمام تعلمها مع الفعل في الوقت، فهل يلزمه التعلم قبل الوقت؟ تردد فيه الغزالي، والأصح: ما جزم به غيره أنه يلزمه، كما يلزم السعي إلى الجمعة قبل الوقت لمن بعد منزله، وإذا كان ما تعلق به الوجوب على الفور، كان تعلم كيفيته على الفور، وإن كان على التراخي، كالحج، فتعلم الكيفية على التراخي، وأما علم القلب [وهو معرفة أمراض القلب]، كالحسد والعجب والرياء وشبهها، فقد قال الغزالي: معرفة حدودها وأسبابها وطبها وعلاجها فرض عين، وقال غيره: فيه تفصيل، فمن رزق قلباً سليماً من هذه الأمراض المحرمة كفاه ذلك، ومن لم يسلم وتمكن من تطهير قلبه بغير تعلم العلم المذكور، وجب تطهيره، وإن لم يتمكن إلا بتعلم، وجب، وقد سبق في كتاب الصلاة وجوب تعليم الصغار على أوليائهم، ومن فرض الكفاية، معرفة أصول الفقه والفقه، والنحو واللغة والتصريف، وأسماء الرواة، والجرح والتعديل, واختلاف العلماء واتفاقهم، وقد يكون من العلم مستحب، كالتبحر في أصول الأدلة بالزيادة على القدر الذي يحصل به فرض الكفاية، وكتعلم العامي نوافل العبادات لغرض العمل، لا لما يقوم به المجتهدون من تمييز الفرض من النفل، فإن ذلك فرض كفاية في حقهم، قال صاحب "الحاوي": وإنما يتوجه فرض الكفاية في العلم على من جمع أربعة شروط وهي: أن يكون مكلفاً، وممن يتقلد القضاء، لا عبداً ولا امرأة، وأن لا يكون =