للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الغَزَالِيُّ: (الخَامِسَةُ): لاَ يَجُوزُ الانْصِرَافُ مِنْ صَفِّ القِتَالِ إِنْ كَانَ فِيهِ انْكِسَارٌ لِلْمُسْلِمِينَ* وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَيَجُوزُ إِنْ قَصَدَ التَّحَيُّزَ إِلَى فِئَةٍ قَرِيبَة يَسْتَنْجِدُ بِهَا فِي هَذَا القِتَالِ* وَهَلْ يَجُوزُ إِذَا قَصَدَ التَّحَيُّزَ إِلَى فِئَةٍ بَعِيدَةٍ؟ فِيهِ وَجُهَانِ* فَإِنْ جَوَّزْنَا فَبَدَا لَهُ أَنْ لاَ يُقَاتِلَ مَعَ الفِئَةِ البَعِيدَةِ أَيْضًا جَازَ* وَلاَ يَشْتَرِكُ فِي هَذَا المَغْنَمِ إِنْ فَارَقَ قَبْلَ الاغْتِنَامِ* وَهَلْ يَشْتَرِكُ المُتَحَيِّزُ إِلَى فِئَةٍ قَرِيبَةٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ* وَيَجُوزُ الانْهِزَامُ بِكُلِّ حَالٍ إِذَا زَادَ عَدَدُ الكُفَّارِ عَلَى الضِّعْفِ لَكِنْ فِي انْهِزَامِ مِائَةِ بَطَلٍ مِنْ مِائَتَيْ ضَعِيفٍ وَوَاحدٍ خِلاَفٌ* مَأْخَذُهُ أَنَّ النَّظَرَ إِلَى صُورَةِ العَدَدِ أَوْ إِلَى المَعْنَى.

قال الرَّافِعِيُّ: الخَامِسَةُ: في حُكْمِ الهزِيمَةِ إذا التقى الصَّفَّانِ في القتال (١)، فقد


(١) قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} -في هذه الآية ينهى الله المؤمنين عن الفرار من الكفاَر إذا التقوا بهم في القتال، وحكمة ذلك أن الفرار كبير المفسدة وخيم العاقبة؛ لأن الفارّ يكون كالحجر يسقط من البناء فيتداعى ويختل نظامه؛ لهذا عدّ الشارع الحكيم الفرار من الزحف من أكبر الجنايات، وقد توعد الله المقاتلين الذين يولون العدوّ ظهورهم فقال: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} الآية.
وفي الفرار من العدو عار يجعل الحياة بغيضة عند النفوس الأبيّة قال يزيد بن المهلّب: "والله إني لأكره الحياة بعد الهزيمة".
"حكمة" قال بعض العلماء أن هذا النهي خاصّ بوقعة بدر وبه قال نافع، والحسن وقتادة، ويزيد ابن أبي حبيب، والضحاك، ونسب إلى أبي حنيفة كما حكاه القرطبي.
وقال الجمهور وهو المروي عن ابن عباس أن تحريم الفرار من الصف عند الزحف باقٍ إلى يوم القيامة في كل قتال يلتقي فيه المسلمون والكفار.
"الأدلة": استدل الأوَّلون بقوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} فقالوا: إن الإشارة في قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ} إلى يوم بدر، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}.
وقد ردّ الجمهور عليه بأن الإشارة فيه إلى يوم الزحف الذي تضمنه قوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَار} أي كل مرة تلقون فيها الكفار يحرم عليكم الفرار منهم، وحكم الآية باقٍ بشرط الضعف الذي بينه الله تعالى في قوله {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} الآية -والذي يؤيد أن الإشارة عامة في كل زحف أن الآية نزلت بعد انقضاءِ الحرب وذهاب اليوم بما فيه.
واستدل الجمهور بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وقالوا: إن الآيات عامة في كل زحف وليست خاصة بغزوة بدر دلّ على ذلك ما صَحَّ في مسلم عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوْبيِقَاتِ" وَعَدَّ منها الفرار يوم الزحف فدلّ على حرمته في كل زحف وزمان، غير أن هذه الحرمة مقيدة بأمرين: أحدهما: ما دل عليه قوله تعالى: {إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} فإنه متى قصد أحد هذين الأمرين من الفرار =

<<  <  ج: ص:  >  >>