أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}. ووجه الدلالة أن الله تعالى ذكر الانتفاع بالركوب والزينة ولم يذكر الانتفاع بالأكل، مع أنه في سياق الامتنان، والمنّة به أعظم وأولى. أما السنّة: فما روي عن خالد رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "حرام عليكم الحمر الأهلية وخيلها وبغالها". ولا يتم لهم هذا الاستدلال، سواء كان بالكتاب أم بالستة؛ وذلك لأن الآية التي استدلوا بها {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ ...} الآية مكية بالاتفاق، ولحوم الحمر إنما حرمت يوم خيبر سنة سبع بالاتفاق. فدل على أنه لم يفهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا الصحابة في الآية تحريماً للحمر ولا لغيرها، فإنها لو دلت على تحريم الخيل، دلت على تحريم الحمر، وهم لم يمتنعوا منها، بل امتدت الحال إلى يوم خيبر فحرمت. وأيضاً فالاقتصار على ركوبها والتزين بها لا يدل على نفي الترائد عليهما، وإنما خصهما بالذكر لأنهما معظم المقصود من الخيل. من ذلك قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} اقتصر في الخنزير على تحريم لحمه؛ لأنه معظم مقصوده، وقد أجمعوا على تحريم شحمه ودمه وسائر أجزائه. وأيضاً فإن موضع الاستدلال في الآية بالمفهوم، لا بالمنطوق وهم لا يقولون به. أما استدلالهم بحديث خالد -في النهي عن أكل لحوم الخيل- فقال الإِمام أحمد: حديث خالد ليس له إسناد جيد، وفيه رجلان لا يعرفان، يرويه ثور عن رجل ليس بمعروف، وقال: لا ندع أحاديثنا لمثل هذا الحديث المنكر. وقال النسائي: حديث الاِباحة أصح؛ قال: ويشبه إنه كان هذا الحديث صحيحاً أن يكون منسوخاً؛ لأن قوله في الحديث الصحيح "وأذن في لحوم الخيل" دليل على ذلك ويمكن أن يقال: إن النهي عن أكل الخيل كان لأمر عارض؛ وذلك أن الخيل كانت قليلة فيهم، وكانت سلاحاً يحتاجون إليه في الحرب، فلهذا نهاهم عن أكله لهذا المعنى، لا لحرمته. وهو وجيه. ومن قال إن الكراهة للتنزيه، قال: إن الفرس كالآدمي من وجه، من حيث إنه يحصل به إرهاب العدو، ويستحق السهم من الغنيمة. والآدمي غير مأكول لكرامته، لا لنجاسته، والخيل كذلك كره أكلها على طريق التنزيه لمعنى الكرامة. ولهذا جعل الجل طاهرة السؤر، وجعل بوله كبول ما يؤكل لحمه.