والمذهب الثاني: أنه لم يكن قبل البعثة متعبَّداً بشيء منها قطعاً، وحكاه في "المنخول" عن إجماع المعتزلة. وقال القاضي في "مختصر التقريب" وابن القشيري: هو الذي صار إليه جماهير المتكلمين. ثم اختلفوا فقالت المعتزلة بإحالة ذلك عقلاً، إذ لو تعبد باتباع أحد لكان عصى من مبعثه، بل كان على شريعة العقل. قال ابن القشيري: وهذا باطل إذ ليس للعقل شريعة. وذهبت عصبة أهل الحق إلى أنه لم يقع ولكنه ممتنع عقلاً. قال القاضي: وهذا نرتضيه وننصره؛ لأنه لو كان على دين لنُقل، ولذكره عليه السلام، إذ لا يظن به الكتمان. وعارض ذلك إمام الحرمين وقال: لو لم يكن على دين أصلاً لنقل، فإن ذلك أبعد عن المعتاد مما ذكره القاضي (قال): فقد تعارض الأمران، والوجه أن يقال: كانت العادة انخرقت في أمور الرسول عليه الصلاة والسلام، منها انصراف هَمّ الناس عن أمر دينه والبحث عنه. والمذهب الثالث: التوقف. وبه قال إمام الحرمين وابن القشيري والكيا والآمدي والشريف المرتضى في "الذريعة" واختاره النووي في "الروضة" إذ ليس فيه دلالة عقل، ولا ثبت فيه نص ولا إجماع. وقال ابن القشيري في "المرشد": كل هذه أقوال متعارضة، وليس فيها دلالة قاطعة، والعقل يجوّز ذلك، لكن أين السمع فيه. ثم الواقفية انقسموا: فقيل: نعلم أنه كان متعبداً ونتوقف في عين ما كان متعبداً به. ومنهم من توقف في الأصل، فجوز أن يكون وألا يكون. تنبيهات: الأول: الخلاف في الفروع. أما في الأصول فدين الأنبياء كلهم واحد، على التوحيد ومعرفة الله وصفاته. الثاني: قال العراقي في "شرح التنقيح": المختار في هذه المسألة أن يقال: متعبِّد (بكسر الباء) على أنه اسم فاعل، أي إنه عليه السلام كان كما قيل في سيرته: ينظر إلى ما عليه الناس فيجدهم على طريقة لا تليق بصانع العالم، فكان يخرج إلى غار حراء يتعبَّد، حتى بعثه الله. أما (بفتحها) فيقتضي أن الله تعالى تعبده بشريعة سابقة، وذلك يأباه حكايتهم الخلاف، هل كان متعبداً بشريعة موسى أو عيسى؟ فإن شرائع بني إسرائيل لم تتعدَّ إلى بني إسماعيل، بل كان كل نبي بين موسى وعيسى يبعث إلى قومه فلا تتعدى رسالته قومه. حتى نقل المفسرون أن موسى عليه السلام لم يبعث إلى أهل مصر بل لبني إسرائيل وليأخذهم من القبط من يد فرعون، ولذلك لما جاوز البحر لم يرجع إلى مصر لتعم فيها شريعته، بل أعرض عنهم إعراضاً كلياً. وحينئذ لا يكون الله تعالى تعبد نبينا محمداً -صلى الله عليه وسلم- بشريعتهما ألبتة، فبطل قولنا: إنه كان متعبَّداً (بفتح الباء)، بل (بكسرها). وهذا بخلاف ما بعد نبوته، فإن الله تعالى تعبده بشرع من قبله على الخلاف، بنصوص خاصة، فيستقيم الفتح بعد النبوة دون ما قبلها. وكلام الآمدي يقتضي خلاف ذلك، فإنه قال: غير مستبعد في العقول أن يعلم الله تعالى مصلحة شخص معين في تكليفه شريعة من قبله، وهذا يقتضي (فتح الباء). ولم نرَ لغيره تعرضاً لذلك. قلت: قد وقع ذلك في عبارة غيره، كما سبق. الثالث: قال إمام الحرمين: هذه المسألة لا يظهر لها فائدة، بل تجري مجرى التواريخ المنقولة. ووافقه المازري والأبياري وغيرهما ويمكن أن يظهر في إطلاق النسخ على ما تعبد به بورود شريعته المؤيدة. =