للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في الأصل، وإنما يُبَاح بتوهُّم المنفعة، وذلك مشكوكٌ فيه، ويَطَّرد هذا في أجرة من قطع يداً متآكلة؛ لاستبقاء النفس، وقضية ما ذكره أن تكون أجرة الطبيب الذي يعالج بدواءٍ فيه خطرٌ، ومعلِّم السباحة، ومجرى السفينة، وأمثالهم مكروهةً، وهو بعيد.

وقوله في الكتاب "وليس بحرام" يجوز أن يعلم بالألف والواو، لما سبق.

وقوله في أول الكتاب "حلال إلا ما تستثنيه عَشَرة أصول" لا ينبغي أن يُحمل الحلال على ما لا إثْم في تناوله؛ فإن الحِلَّ بهذا المعنى حاصل في الأصل العاشر، فلا يكون مستثنى منه، بل هو محمول على المباح، بمعنى استواء الطرفين، فيصح استثناء المكروه منه.

فرْعٌ: وإن شئت قلت: أصل، قال القاضي الماوردِيُّ: أصول المكاسب ثلاثةٌ: "الزراعة والتجارة والصناعة، وفي الأطيب منها ثلاثةُ مذاهبَ للناس، قيل: الصناعة أطيب؛ لأن الكسب فيها يُحَصَّل بكد اليمين، وقد رُوِيَ في الخبر، "أن من الذنوب ما لا يُكَفِّرُهُ صوم ولا صلاة، ويكفِّره عَرَق الجبين في الحرفة" (١)، وقيل: التجارة أطيب: لأن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يكتسبون بها، وهذا أشبه بمذهب الشافعيِّ -رضي الله عنه- وقيل: الزراعة أطيب، قال: وهو الأشبه عندي؛ لأنها أقرب إلى التوكُّل والرضا بما يعطيه الله تعالى (٢).

ومما لا بدّ من ذكره في الباب، وهو خارج عن الأصول العَشَرة؛ أنَّ ما يَضرُّ كالزُجاج والحجر والسم، يَحْرُم أكله؛ لأنه قاتلٌ، وليس للإنسان أن يهلك نفسه، وما لا يضر فهو حلال، واستثنى في "التهذيب" من ذلك ثلاثة أشياء المنيُّ، وجِلْد الميتة بعدْ الدِّبَاغ، وكل حيوان يبتلعه حياً سوى السمك والجَرَادِ، في جِلْدِ المَيتة بعد الدِّبَاغ كلامٌ قد سبق في "الطهارات" وفي "النهاية": أن المذهب تحريم المستقذرات الطاهرات كالمُخَاط، والمني ونحوهما، وأنه حُكِيَ عن أبي زيد: أنها لا تُحَرَّم، ويكفي الاستقذار وازعاً عنها، ولا بأس بشرب الدواء الذي فيه قليل سم، إذا كان الغالبُ، منه السلامةَ،


(١) رواه الطبراني [١٠٢] في الأوسط، والخطيب في تلخيص المتشابه، من طريق يحيى بن بكير عن مالك عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة بلفظ: إن من الذنوب ذنوب لا يكفرها الصلاة، ولا الوضوء، ولا الحج، ولا العمرة، قيل: فما يكفرها؟ قال: يكفرها الهموم في طلب المعيشة، وإسناده إلى يحيى واهٍ.
(٢) قال النووي: في "صحيح البخاري" عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما أكل أحد طعاماً قط، خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبى الله داود -صلى الله عليه وسلم-، كان يأكل من عمل يده". فهذا صريح في ترجيح الزراعة، والصنعة، لكونهما من عمل يده، لكن الزراعة أفضلهما، لعموم النفع بها للآدمي وغيره، وعموم الحاجة إليها.

<<  <  ج: ص:  >  >>