بين الله سبحانه وتعالى أن اليمين اللغو لا مؤاخذة فيها وأن اليمين المنعقدة فيها المؤاخذة وهي الكفَّارة فكان ذلك دليلاً على مشروعية الكفَّارة عند الحنث في اليمين. وأما السنة: فما روي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فأت الذي هو خير وكفِّر عن يمينك" فأنت تراه -صلى الله عليه وسلم- بين أن الحالف إذا أراد أن يفعل ما حلف على عدم فعله لأن المصلحة في فعله له ذلك وعليه أن يكفر عن يمينه. فأفاد أن الكفارة في اليمين مشروعة عند الحنث فيها. وأما الإِجماع: فقد اتفقت كلمة المسلمين سلفًا وخلفاً على أن الكفَّارة في اليمين بالله مشروعة ولا نعلم من يخالف في ذلك. واختلفت كلمة العلماء في سبب كفارة اليمين. فمنهم من قال: "إن السبب هو الحنث، وأما اليمين فسبب بعد الحنث، وشرط قبله للانعقاد وإلى هذا ذهب أصحاب الرأي، ومنهم أبو حنيفة وأصحابه وداود الظاهري. ومنهم من قال: "إن السبب هو اليمين، وأما الحنث فشرط أو سبب، وعليه المالكية والشافعية والحنابلة وربيعة والأوزاعي". ثم اختلفوا بعد ذلك في نوع اليمين التي هي سبب أو شرط في الكفارة ومن المتفق عليه بين العلماء: أن الكفارة لا تجب في كل يمين، فإن الأيمان منها ما هو يمين بالطلاق أو العتاق، ومنها ما هو يمين بالله -تعالى- وهي المشروعة؛ لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفوا بِآبَائِكِمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمَتْ" ويقول -صلى الله عليه وسلم- لعبد الرِحمن بن سمرة "إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غِيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينكَ ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ". من هذين الحديثين وأمثالهما: يعلم أن اليمين التي تشرع فيها الكفارة: هي اليمين بالله -تعالى-، لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- جعل اليمين المعتبرة هي اليمين بالله -تعالى- كما هو مقتضى الحديث الأول. ثم قال لعبد الرحمن بن سمرة "إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا ... الخ" فعلم من ذلك: أن الكفّارة إنَّمَا تكون في اليمين المشروعة له والمعتبرة عندهم، وهي اليمين بالله -تعالى- فلا كفّارة في غيرها، كاليمين بالطلاق أو العتاق، وإنما فيها تنفيذ ما حلف به، وهو الطلاق أو العتق، وهذا مذهب جمهور الفقهاء. غير أن اليمين بالله -تعالى- منها ما هو يَمينُ لَغْوٍ، وما هو يمين منعقدة كما تقدم. وذهب جمهور العلماء إلى أنه لا كفّارة، في يمين اللّغو، سواء تعلقت بالماضي أو بالحال أو بالاستقبال؛ لقوله -تعالى-: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ...} الآية فقد فسر -سبحانه وتعالى- المؤاخذة بقوله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} .. الآية، فعلم من ذلك: أن المؤاخذة المنفية في اللغو هي الكفارة، وذلك يفيد بظاهره أن يمين اللغْوِ لا كفَّارة فيها من غير تفصيل. وقالت المالكية: "إن تَعَلّقت بغير المستقبل، فلا كفَّارة فيها، وإن تعلّقت به، ففيها الكفَّارة، لشبهها باليمين المنعقدة من حيث إن فيها انتهاكًا لِحُرْمَةِ التعظيم بحلفه على ما يجهله من غير أن يتثبت في ذلك. وقد اختلفوا في تفسير اللغو: فمنهم من قال: هو ما جرى على لسان الحالف من غير قصد "كَلاَّ وَاللهِ، وَبَلَى وَاللهِ، وهم =