للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَال الغَزَالِيُّ: النَّظَرُ الثَّانِي فِي الكَفَّارَةِ: وَهُوَ عِتْقُ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامُ عَشَرَةَ أَمْدَادٍ لِعَشَرَةِ مَسَاكِينَ، أَوْ كِسْوَتُهُمْ، فَإِنْ عَجَزَ فَصَوْمُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، وَلاَ يَجِبُ التَّتَابُعُ.

قَالَ الرَّافِعيُّ: كفارة اليمين (١) تختصُّ باشتمالها على تخيير في الابتداء وترتيب في الانتهاء، فيخيَّر الحالِفُ أولاً بين أن يُطْعم عشرةَ مساكين، وبين أن يكْسُوهم وبين أن يُعْتِق رقبة؛ على ما قال تعالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشْرَةِ مَسَاكِينَ من أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُنمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَة} [المائدة: ٨٩] فإن اختار الطعام، أطعم كلَّ واحدٍ مُداً والقول في جنس الطعام وكيفية إخراجه ومَنْ يُصْرَف إلَيْه، وامتناع إخراج القيمة، وصرف الأمداد العشرة إلى بعْض العَشَرة، وسائر المسائل على ما سبق في "الكفارات"، وإن اختار الكِسْوة، كساهم على ما سنَذْكر، وإن اختار الإعتاق، فلتكن الرقبةُ بالصفات المذكررة في "الكفارات" ولو أطعم بعض العشرة، وكسَا البعض، فلا يجوز؛ خِلافاً لأبي حنيفة وأحمد، ويُروَى مثلُه عن مالك -رحمهم الله-.

لنا: أن التخيير للخِصالِ المذكورةِ ينفي التمكُّن من غيرها، والتفريقُ غيرها وأيضاً، فإنه لا يجوز أن يعتق نصف رقبة ويُطْعم أو يكسُو خمسةً، فكذلك هاهنا, ولو أطعم عشَرةً، وكسا عشرَةً، وأعتق رقبَةً، أو أطعم ثلاثين مسكيناً عن ثلاثِ كفاراتٍ، ولم يعيِّن، أجزأه, بناءً على ما مرَّ أن تعيين النية في الكفَّارات لا يشترط، فإن عجز عن الخصال الثلاث جميعاً، صام ثلاثةَ أيام عَلَى ما قال تعالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجدْ فَصِيَامُ ثَلَاثةِ أَيَّام} [البقرة: ١٩٦]، والقول فيما يحصل به العجْز قد تبَّين في"كتاب الكفَّارات" ومن له أن يأخذ سهم الفقراء، أو المساكين من الزكوات أو من الكفارات يُكَفِّر بالصوم؛ لأنه من جملة الفقراء في الأخذ، فكذلك في الإِعطاء، وقد يملك نصابًا ولا يفي دخْلُه


= حملوا المطلق في تحرير الرقبة على المقيد فيها في كفارة القتل، حتى أوجبوا اعتبار وصف الإيمان في الرقبة مع أن السبب فيهما مختلف، وليس لهم مستند في ذلك إلا أن كلا من الكفارتين تجمعهما علة واحدة هي: حرمة السبب، وهذه العلة بذاتها موجودة في الصوم في كفارة اليمين.
وقراءة أُبَيِّ، وابن مسعود: "فَصِيَامُ ثَلاثةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ". فهذه القراءة، وِان لم تثبت قرآنية هذا اللفظ؛ لأن القرآن لا يثبت بالآحاد إلاَّ أنها رواية عن صحابي سمعها من الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلا ينبغي أن يَتَقَوَّلَ عليه ما لم يقله؛ لأنه يعرف حَقَّ المعرفة معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتعَمِّداً، فَلْيَتَبَوأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" فتكون مقيدة للآية.
فقول من قال: إن الآية مطلقة، ولم يرد ما يقيدها لا يقبل بعد البيان السابق، وخصوصاً إذا أمكن حمل المطلق هَاهُنَا على المقيد في كفارة القتل، أو الظهار، ولا مانع منه.
(١) متفق عليه أخرجه البخاري [٣١٣٦ - ٣٨٧٦ - ٤٢٣٠ - ٤٢٣٣، مسلم ١٦٤٩] وفيه قصة.

<<  <  ج: ص:  >  >>