حَنِثَ؛ لأنه فوَّت البر بنفسه مختارًا، وقال مالك وأبو حنيفةَ وأحمدُ -رحمهم الله-: إذا أكله، لم يَحْنَث، والقول عندنا في أنَّه يحْنَثُ في الحال أو بعد مجيء الغد على ما مَرَّ في التلف، ولو قال: لآكُلَنَّ هذا الطعام إلى الغد، فتلف قبل الغد وبعد التمكُّن، يحْنَثُ، ومتى يحْنَثُ، أيحنث إذا تلف أو إذا جاء أول الغد قال الصيدلانيُّ: فيه وجهان، ولو قال: لآكلن هذا الطعام اليوم فيُقاسُ الحكمُ بما ذكرنا فيما إذا قال غدًا.
الصورة الثانية: إذا قال: واللهِ، لأقْضِيَنَّ حقَّكَ، ومات قبل القضاء، نُظِرَ، إن تمكَّن من قضائه، فلم يفعل، فهو حانث، وإن مات قبل التمكُّن، فهو على قولَي الإِكراه، كذلك نقل صاحبُ "التهذيبِ" وإبراهيم المروزيُّ وغيرهما، وجزم أبو سَعْدٍ المتولِّي بأنه لا يحنث، إذا مات قبل التمكن؛ لأن الحقوق الشرعيَّة لا تثبت في الذمة ولا تستقر إلا بعد التمكن، فكذلك التي تستحق بحكم اليمين تستدعي التمكن، ولو قال: لأقضِيَنَّ حقَّكَ، ومات قبل دخول الغد أو بعده، وقبل التمكن، فمن أثبت القولين فيما إذا أطلق، ولم يقيِّد بالغد، أثبتهما هاهنا، ومَنْ جزَمَ بالمنع، جزم هاهنا أيضًا، وإن مات بعد التمكُّن، فيجيء فيه الطريقان المذكوران في الصورة الأولَى، وموت الحالف لا يقتضي الحِنْث لا عند الإِطلاق ولا عند التقييد بالغد؛ لأنَّه يمْكِنُ قضاؤه بالدفع إلى الورثة، هكذا أطلق.
ويجوز أن يُقَالَ: قوله "لأقضيَنَّ حقَّكَ" يقتضي أن يكون المقضيُّ حقه، والمقضيُّ بعد موته حتى الورثة لا حقُّه، فليكنْ هذا كما لو قال: لأقضيَنَّ حقك، ولو قال: لأقضين حقَّك، فهو كما لو قال: لآكلن هذا الطعام غدًا، فطريق البِرِّ والحِنْثِ ظاهر، وموت صاحب الحق هاهنا كتلف الطعام، فإن مات قبل مجيء الغد أو بعده وقبل أن يتمكن من القضاء، فهو على القولَيْن في الإِكراه، وإن مات بعد التمكُّن، ففيه الطريقان السابقان، وإذا قلنا بالحنث، فيحنث في الحَال أو بَعْدَ مجيء الغد فيه القولان، وموتُ الحالفِ، والصورةُ هذه، قبل مجيء الغد وبعْده عَلَى ما بيناه في الصورة الأولى وقوله في الكتاب "ولا يبعد حكم الحنث" أراد أنه إذا مات قبل مجيء الغد، فيدخل وقت الحنث، وهو ميِّتٌ، لكنه إذا سبق اليمين في الحياة، وهي السبب الأول، لم يبعد أن يحنث، وهو ميِّتٌ كما لو حفر بئرًا متعدِّيًا فتعدَّى فيها إنسانٌ بعْد موته، يلزمه الضمان والكفارةُ في ماله، وإن قضاه قبل مجيء الغَدِ، فقد فَوَّت البر على نفسه، فيحنث إلا أن يريد أنه لا يؤَخِّر القضاء عن الغد، وهذا بمثابة إتلاف الطعام قَبْل الغَدِ، ويعود فيه خلافُ أبي حنيفة ومَنْ وافقه، ولو أبرأه صاحبُ الحقِّ في هذه التصويرات، فإن قلنا يحتاج الإِبراء إلَى القبول، فقيل: حنث لتفويته البِرَّ باختياره، إلا أن يريد باليمين؛ أنه لا يمضي الغد، وحقُّه باقٍ عليه، وإن لم يقل، لم يحنث؛ لبقاء الدَّيْن وإمكان قضائه، وإن قلْنا؛ لا يحاج الإِبراء إلى القبول، سقَطَ الدَّيْن، وفي الحِنْث قولا الإِكراه؛ لفوات البِرِّ