للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والثاني: أنه يُؤْجَرُ عليه، وعلى الاجتهاد جميعًا؛ لأنه بَذَلَ ما في وسعه في طلب الحق، والوقوف عليه، وربما سلك الطريق في الابتداء، ولم يَتيسَّر له الإِتمام.

وإن قلنا: إن كل مجتهدٍ مصيبٌ؛، فهل نقول: الحكْمُ والحَقُّ في كل واحد من المجتهدين: ما غلب وعلى ظنِّه، أو نقول: الحقُّ واحدٌ، وهو أشبه مطلوب إلاَّ أنَّ كلَّ واحدٍ منهم مُكَلَّفٌ بما غلب على ظنه، لا بإصابة الأشبه؟ فيه وجهان:

اختيار صاحب الكتاب منهما الأوَّل، وبالثاني أجاب أصحابنا العراقِيُّون، وحكَوْه عن القاضي أبي حامد، والدَّارِكِّي.

وهذه قواعد أصوليةٌ تكلَّمْنا فيها على طريقة المذْهَبَيْن. ولم نشبع إذا عَرَفْتَ ذلك، فمهما قضى القاضي بالاجتهاد، ثم بَانَ له الخطأُ في قضائِهِ، فله حالتان:

إحداهما: أنه، إذا بان أنه خالَفَ أمرًا مقطوعًا به، كنصِّ كتابٍ، أو سنةٍ متواترةٍ أو إجماعٍ، أو مظنونًا ظنًّا محكمًا بخَبَرِ الواحِدِ، وبالقياسِ الجَلِيِّ؛ لزمه نقض قضائه.

رُوِي أن عمر -رضي الله عنه- كان يفاضل بين الأصابع في الدِّيَة؛ لتفاوت منافعها حتى رُوِيَ له الخَبَرُ في التَّسْوية، فنقض حكمه (١)، وأنه كتب إلى أبي موسَى -رضي الله عنه-: لا يمنعك قضاء قَضَيْتَه، ثم راجعْتَ فيه نَفْسَكَ، فَهُدِيتَ لرُشْدِهِ، أن تَنْقُضَهُ، فإنَّ الحق قوام، لا يَنْقُضُهُ شَيْءٌ، والرجُوعُ إلَى الحَقِّ، خَيْرٌ من التمادِي في البَاطِلِ (٢)، وعن عليٍّ -رضي الله عنه- أنه نقص قضاءَ شُرَيْحٍ -رحمه الله- بأنَّ شهادة المولى لا تُقْبَلُ بالقياس الجَلِيِّ، وهو أن ابن العم يَقْبَلُ شهادته مع أنه أقرب من المولى.

وهل عَلَى القاضي تعريفُ الخصمين صُورةً الحَالِ؛ ليترافعا إليه، فينقض الحكم حكى القاضي ابن كج عن ابن سُرَيْجٍ: أنه لا يجب إذا عَرَّفاه أنه بأن الخطأ، فإن ترافعا إليه، نقض، وعن سائر الأصحاب: أنَّه يجب، وإنْ علما أنه بَانَ الخَطأ؛ لأنهما قد يَتَوَهَّمَان أنَّه لا ينقض الحُكْم، وإن بأن الخطأ فيعرفهما أنه على النقض؛ ليترافعا إليه، هذا إذا كان الحكم فيما يتعلَّق بحقوق الآدميِّين.


(١) رواه الخطابي في المعالم عن سعيد بن المسيب: أن عمر كان يجعل في الإِبهام خمسة عشر، وفي التي تليها عشرة، وفي الوسطى عشرين، وفي التي تلي الخنصر بتسع، وفي الخنصر بست، حتى وجد كتابًا عند عمرو بن حزم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: إن الأصابع كلها سواء، فأخذ به؛ وروى الشافعي في الرسالة عن سفيان والثقفي عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسبب مثله، إلا من قوله حتى وجد إلى آخره، فذكره في اختلاف الحديث.
(٢) رواه الدارقطني والبيهقي من حديث عمر أتم منه، وساقه ابن حزم من طريقين، وأعلهما بالانقطاع، لكن اختلاف المخرج فيهما، مما يقوي أصل الرسالة، لا سيما وفي بعض طرقه أن راويه أخرج الرسالة مكتوبة.

<<  <  ج: ص:  >  >>