للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ الغَزَالِيُّ: وَصِفَةُ المُزَكِّي كَصِفَةِ الشَّاهِدِ لكِنْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ خَبِيرًا بِبَاطِنِ مَنْ يُعَدِّلُهُ بِصُحْبَةٍ مَعَهُ، وَلا يَعْتَمِدُ فِي الجَرْحِ إِلاَّ العِيَانَ، وَلَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ إِنْ نَصَّبِ حَاكِمًا فِي التَّعْدِيلِ، وَيَجِبُ أَنَّ يُشَافِهَ القَاضِيَ بِهِ وَيَأْتىَ بِلَفْظِ الشَّهادَةِ فَيَقُولَ أَشْهَدُ أنَّه عَدْلٌ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ فَرُبَّ عَدْلٍ مُغَفَّلٍ لا تَقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَلا تَكْفِي الرُّقْعَةُ مَعَ شَهَادَةِ رَسُولَيْنِ عَدْلَيْنِ، وَيَجِبُ ذِكْرُ سَبِبِ الجَرْحِ دُونَ التَّعْدِيلِ.

قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسائل:

أحدها: من نصبه حاكمًا في الجَرْح والتعديلِ اعتبر فيه صفاتِ القضاةِ، ومَنْ شهد بالعدالة والفِسْقِ، اعتبر فيه صفاتِ الشُّهُود، ويعتبر مع ذلك العِلْم بالعدالة والفِسقْ، وأسبابهما ويعتبر أيضًا أن يكون العَدْلُ خبيرًا بباطنِ حالِ مَنْ يعدله، إما لصحبةٍ وجوارٍ ومعاملةٍ أو نَحْوِه، رُوِي أن شاهِدَيْن شهدا عند عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال لهما: إِنِّي لا أَعْرِفُكُمَا وَلا يَضُرُّكُمَا أَنْ لاَ أَعْرِفَكُمَا ائْتِيَا بِمَنْ يَعْرِفُكُمَا فأَتَيَا بِرَجُلٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: كَيْفَ تَعْرِفُهِمَا؟ قَالَ: بِالصَّلاح والأَمَانَةِ، قَالَ: هَلْ كُنْتَ جَارًا لَهُمَا، تَعْرِفُ صَبَاحَهُما وَمَسَاءَهُمَا وَمَدْخَلَهُمَا وَمَخْرَجَهُمَا؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: هَلْ عَامَلتَهُمَا بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الَّتي تُعْرَفُ بِهَا أَمَانَاتُ الرِّجَالِ، قَالَ: لاَ قَالَ: فَهَلْ صَاحَبْتَهُمَا فِي السَّفَرِ الَّذِي يُسْفِرُ عَنْ أَخْلاَقِ الرِّجَالِ؛ قَالَ: لاَ فَأَنْتَ لا تَعْرِفُهُمَا، ائْتِيَا بِمْنَ يَعْرِفُكُمَا" (١) والْمَعْنَى فيه أن الإنسان يُخْفِي أسباب الفِسْق غالبًا، فلا بدّ من معرفة بباطن حاله، وهذا كما أن في الشهادة على الإفلاس يعتبر الخبرة الباطنة؛ لأن الإنسان مشغوف بإخفاء المال، وفي الشهادة على أَنْ لا وارث سواء، تعتبر الخبرة الباطنة؛ لأنه قد يتزوَّج في السفر أو في الحَضَر، ويخفيه، فيولد له، قال في "الوسيط": ويجب على القاضي أن يعرف أن المزكِّي، هَلْ خبر بباطن الشاهد في كلِّ تزكية إلا إذا علم من عادته أنه لا يزكِّي إلا بعد الخبرة، وظاهر لفظ الشافعيِّ -رضي الله عنه- اعتبارُ التقادمُ في المعرفة الباطنة، ووجَّه ذلك بأنها، إذا لم تتقادَمْ، لم يمكن الاختبار في يَومٍ أو يومين، ويشبه أن يقال: شدة التفحُّص والإمعان فيه يقوم مقام التقادم، ويمكن الاختبار في المدة اليسيرة، وليس ذكره التقادُمَ على سبيل الاشتراط؛ لأنَّ الغالب أنَّ المعرفة الباطنة حينئذٍ تَحْصُل، ويوضِّحه ما ذكرنا أن القاضي قد يأمرُ بالبحث والتفحُّص عن حال الشاهد؛ ليعرف،


(١) أخرجه العقيلي، والخطيب في الكفاية، والبيهقيُّ من حديث داود بن رشيد عن الفضل بن زياد عن شيبان، عن الأعمش عن سليمان بن مسهر، عن خرشة بن الحر قال: شهد رجل عند عمر، فذكره أتم من هذا، قال العقيلي: الفضل مجهول، وما في هذا الكتاب حديث لمجهول أحسن من هذا، وصححه أبو علي بن السكن.

<<  <  ج: ص:  >  >>