للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَوْلُهُ: لِيَ عَلَيْهِ كَذَا، وَلْيَكُنْ مَعَهُ بَيِّنَةٌ، وَيدَّعِي جُحُودَ الغَائِبِ، وَإِنْ أقرّ بَأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ لَمْ تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضُ لِجُحُودِهِ فَوَجْهَانِ:

قَالَ الرَّافِعِيّ: القضاء على الغائب جائزٌ في الجملة، وبه قال مالك وأحمد -رحمهما الله- واحْتَجَّ الأصحاب له بما رُوِيَ أنَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِهِنْدَ: "خُذِي ما يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالمَعْرِوفِ" (١) وكان ذَلِكَ قضاءً منه على زَوْجِهَا أَبِي سفيان، وهو غائب، وبأن عمر بن الخطاب قال في خطبته في قضية الأسيفع: "مَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا غَدًا فَإنَّا بائعو مَالِهِ وَقَاسِمُوهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ" (٢) وكان ذلك الرجل غائبًا، وبأن البينة مسموعة بالاتفاق على الغائب، فليجر الحكم بها كالبينة المسموعة على الحاضر الساكت، وبأن الحكم على الميِّت والصغير جائزٌ، والموت والصغر أعظم من العفْوِ عن الدفع من الغيبة، وقال أبو حنيفة: لا يجوز القضاء على الغائِبِ إِلاَّ إِذَا كان للدَّعْوَى اتصال بحاضر بأن قال: لي على فلانٍ الغائب كذا وفلان كفيله أو شريكه أو أحالني على هذا الحاضر أو باع من هذا الحاضر كذا، وأَنا شفيعٌ مطالِبٌ أو ادعت الزوجة النفقةَ عَلَى زوجها الغائِبِ في أن له على هذا كذا وفي يد هذا كذا أو ادعى إتلاف مال عَلَى جماعةٍ أحدُهم حاضرٌ، والباقون غُيَّبٌ؛، وعن صاحب "التقريب": أن حرملة روى في المسألة قولاً كمذهب أبي حنيفة، والمذهبُ المشهورُ ما سبق، إِذا عرف ذلك، فالكلام في القضاء عَلَى الغائب يتعلَّق بأطراف، كل واحد منْهُما ركن، فمسائِلُ الباب:

أحدها: الدعْوَى، ويشترط في الدعْوَى على الغائب ما يشترط في الدعْوَى عَلَى الحاضِرِينَ من بيان جنْس المدعي وقدره وصفته، وقوله: إني مطالِبٌ بالمال، ولا يكفي الاقتِصار عَلَى قوله: "لي عليه كذا" على ما سيأتي ذلك بشرحه في باب الدعْوَى، وينبغي أن يكون على المدعَى عليه بيِّنَة، وإلا فلا فائدة للدعوى عَلَى الغائب، وأن يدعي جُحُود الغائب، فإن قال: هو مقر، لم تسمع بينته ولغت دعواه، وإن لم يتعرَّضْ لجحوده ولا إِقراره، فوجهان: ميل الإِمام منهما إلى أن بينته تسمع؛ لأنه قد لا يعلم جحُودَهُ في غيبته، ويحتاج إِلى إِثبات الحق، فليجعل غيبته كسكوته.

والثاني: لا تسمع إلا عنْدَ التعرّض للجُحُود؛ لأن البينة إِنما يحتاج إِلَيْها عنْد الجحود، فعلى هذا يشترط أن يَقُول: هو جاحد، وعلى الأول الشَّرْط أَلاَّ يقول: هو مقر، ورأيت فيما جمع من فتاوى القَفَّال (٣) أن هذا كله فيما إذا أراد إِقامة البينة عَلَى ما


(١) تقدم في النفقات.
(٢) تقدم في الحجر، وهو من الموطأ.
(٣) قال في القوت: وقفت على نسختين مما جمع من فتاوى القفال ورتبت مسائلها على الأبواب فإنها مبددة فلم أرَ بعد التقصي فيها ما نقله الرافعي وهو الثقة الأمين فلعلها عن غيره أو أغفلت أو =

<<  <  ج: ص:  >  >>