للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صلى الله عليه وسلم- قال في مَعْرِضِ الذَّمِّ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ يُعْطُونُ الشَّهِادَةَ قَبْلَ أنْ يُسْأَلُوهَا (١) وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "خَيْرُ الشُّهَدَاءِ الَّذِي يَأْتِي بِالشَّهَادَةِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا" (٢) فَجُمِعَ بين الحديثين بحَمْلِ الثاني على ما يجُوز المبادرةُ إليه وحُمِلَ الأولُ عَلَى ما لا يجوز، والمبادرةُ أن يشهد من غير تقدُّم دعوى، فإِن شهد فِي غَيْر موضْح الحاجة بعْد الدعْوَى، وقبل أن يستشهد، فوجهان:

أحدُهِما: القبول؛ لأنَّه شهِدَ وقْتَ الحاجة إلَى إقامة البيِّنة، والأظهرُ المَنْع للتُّهمة، ولفظ الخَبَر الأوَّل شهد له، وهو الذي أورده في "التَّهْذيب" وإذا ردَدْنا شهادة المُبَادر، ففي صيرورته مجروحًا وجهان مشهوران في كَلاَم الأصحاب -رحمهم الله- أشبههما المنع ويحكى القطع عن أبي عاصم العبادي إن كانت المبادرة عن جهل منه وظاهر هذا الإِيراد كون الخلاف في سقوط عدالته على الإِطلاق ويؤيده أن القاضي أبا سعد الهروي قال: الوجهان مبنيان على أن المبادرة من الصغائر أو الكبائر لكن منهم من يفهم كلامه وقوع هذا الخلاف في قبول تلك الشهادة وحدها إذا أعادها لا في سقوط العدالة مطلقاً -هذا صاحب الكتاب يقول في الوسيط في باب دعوى الدم في وجه لا تقبل تلك الشهادة منه إذا أعادها كالشهادة المردودة بعلة الفسق وعلى وجه تقبل وعلى وجه إن تاب عن المبادرة تقبل، وفي التهذيب أن إذا قلنا يصير مجروحاً فلا يشترط استبراء الحال حتى لو شهد في حادثة أخرى تقبل فأشعر ذلك في اختصاص الخلاف في تلك الشهادة لا غير.

وتقبلُ شهادة من اختبأ وجلس في زاوية مستخفياً لتحمل الشهادة ولا تحمل على الحرص إذ الحاجة قد تدعو إليه بأن يقر مَنْ عليه الحق إذا خلا به المستحق ويجحد إذا


(١) رواه الترمذي من حديث عمران بلفظه، وهو متفق عليه من حديث عمران بن حصين بلفظ: خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي من بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، الحديث، وروى ابن حبان في صحيحه من حديث عمر في خطبته وفيه: ثم يفشوا الكذب حتى يحلف الرجل على اليمين قبل أن يستحلف عليها، ويشهد على الشهادة قبل أن يستشهد عليها، الحديث.
(٢) رواه مسلم من حديث زيد بن خالد الجهني.
جمع بين هذا الحديث والذي قبله، يحمل الأول على حقوق الآدميين، والثاني على حقوق الله، أو حمل الأول، على شاهد الزور، والثاني على الشاهد على الشيء يؤدي شهادته ولا يمنع من إقامتها، أو الأول على الشهادة في الأيمان كمن يقول أشهد بالله ما كان كذا، ووجه كراهة ذلك أنه نظير الحلف وإن كان صادقاً، وقد كره، والثاني على ما عدا ذلك، أو الأول على الشهادة على المسلمين بأمر المغيب، كما يشهد أهل الأهواء على مخالفيهم أنهم من أهل النار، والثاني على من استعد للأداء وهي أمانة عنده، أو الأول على ما بعلم بها صاحبها، فيكره التسرع إلى أدائها، والثاني على ما إذا كان صاحبها لا يعلم بها.

<<  <  ج: ص:  >  >>