وعدالة تلك البينة لا تُدْرَكُ إلا بالاجتهادِ، والاجتهادُ لا ينقض بالاجتهاد، وهذا يوافِقُ مذهب أبي حنيفة؛ لأنه لا يسمع بينة الفسْقِ على الشاهدَيْنِ.
وأصحَّهُمَا: النقض، كسائر المسائل المذكورة وبل أولَى؛ لأن اعتبار العدالةِ منصوصٌ علَيْه، قال تعالَى:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}[الحجرات: ٦] والقول بأن عدالة الشهود تُدْرَكُ بالاجتهاد لا تَقْدَحُ كما أن خبر الواحِدِ العَدْلِ يُنْقَضُ به الحُكْم، وإن كانتْ عدالته لا تدْرَكُ إلا بالاجتهاد، وكما لو بان كون الشاهدَيْن صبيَّيْن أو كافرَيْن.
والطريق الثاني: القطعُ بالنقض، وحمل ما قاله في الموضع الآخر علَى ما إذا شهدوا على الفسْق مطلقاً، ولم ينصُّوا على فسْقِه يوْمَ الحكم، فلا ينقض به الحكم؛ لاحتمال حدوثه بعد الحكم أو علَى ما إذا شَهِدُوا علَى فِسْقٍ مجتَهَدٍ فيه، كشُرْب النبيذ، ولو سمع القاضي شهادةَ شاهدَيْن عدلَيْن، ثم فُسِّقَا قبل أن يحكم بشهادتهما، لم يجُزِ الحكم؛ لوقوع الريبة، فإن الفسْق يَخْفَى غالباً، فربَّما كانا فاسقَيْن يوم الشهادة، ولو ارتدَّا، فكذلك؛ لأن الردَّة توقع الريبة أيضاً، وتُشْعِر بخبثٍ كامِنٍ، وفيها وجهان آخران:
أحدهما: أن حدوثَها لا يمنع الحكْمَ بشهادتهما المَسْمُوعة.
والثاني: عن الداركيِّ: الفرق بين أن يرتدَّ إلى كُفْرِ يستسر أهله به فيكون كالفسق، أو إلَى غيره.
ولو شهدا عنْده في حدٍّ أو مالٍ، ثم ماتا، أو جُنّا أو عَمِيَا أو خَرِسَا، لم يمنع حدوث هذه الأحوال الحُكْمَ بشهادتهما؛ لأنها لا تُوقِعُ ريبة فيما مضى، ويجوز أن يقع التعديلُ بعد حدوثها، وألحق المُزَنِيُّ ظهور الفِسْقِ والرّدَّة بعُرُوض هذه الأحوال، ولم يَجْعَلْهُمَا مانِعَيْنِ من الحكم، ولو فسق الشاهدان، أو ارتدَّا بعْد الحُكْم والاستيفاء، لم يؤثِّر بحال، ولو فَسَقا، أو ارتدَّا بعْد الحكم وقبل الاستيفاء، فهو كرجوع الشاهدَيْنِ بعد الحكم وقبل الاستيفاء، وفيه تفصيلٌ واختلافٌ، يُذْكَرُ في "باب الرجوع" والأصحُّ أنه لا أثر له في المال، بل يستوفي ولا يُقَدَّر استنادُ الفسْق بعْد نفوذِ الحُكْم إلى القاضي، وهذه الصورة هي التي عنَاهَا في الكتاب بقوله:"إلا أن يَفْسُقَ بعْد الحكم، فلا يقدر" إلى آخره.
وأصحاب الطريقة القاطعة بالنَّقْض فيما إذا بان أنَّه حكَمَ بشهادة فاسقَيْن، منهم مَنْ يُنْزِل الخلافَ على هذه الصورة.
ويجوز أن يُعْلَمَ قوله:"نقض" بالحاء.
وقوله:"على أظهر القولين" بالواو، لما بيَّنَّاه.
فُرُوعٌ: قال القاضي بعد الحُكْم بشهادة شاهدَيْن قد بان لي أنهما كانا فاسَقْين، ولم يظْهَر بينة تشْهَد بفسقهما، قال صاحب الكتاب في "الفتاوى": إذا لم يتهم في قضائه