وإن أقام أحدهما بَيِّنَةً قُضِيَ بها. وإن أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بيَّنَةً، فَبَيِّنَةُ النصراني أَوْلَى؛ لأنها تُنْقِلُهُ من النَّصْرَانِيَّةِ إلى الإِسْلاَم في شعبان، والأخرى تستصحب دينه إلى شوال فمع الأُولَى زِيادَةُ عِلْمٍ.
والثالثة: أن يَتَّفِقَا على تَاريخِ إِسْلاَمِ المسلم؛ بأن اتَّفَقا على أنه أَسْلَمَ في رَمَضَانَ، لكن ادَّعَى المُسْلِمُ أن الأَبَ مَاتَ في شعبان، وقال النَّصْرَانِيُّ: بل مات في شَوَّالٍ، فالقول قَوْل النَّصْرَانِيَّ؛ لأن الأصل دَوَامُ الحَيَاةِ.
وإن أقاما بَيِّنَتَيْنِ، فَبَيِّنَة المُسْلِم أَوْلَى؛ لأنها تنْتَقِلُ من الحَيَاةِ إلى المَوْتِ في شعبان، والأخرى تَسْتصْحِبُ الحَيَاةَ إلىَ شوال، فمع الأولى زَيَادَةُ عِلْمٍ.
واعترض الإِمام: بأن بَيِّنَةَ النَّصْرَانِيُّ تُثبِتُ الحَيَاةَ في شعبان؛ لأنها تَشهَدُ على المَوْتِ في شوال، والموت إنما يكون عن حَيَاةٍ، والحَيَاةُ صِفَةٌ ثابتة يُشْهَدُ عليها كالمَوْتِ، فليحكم بتَعَارُضِهِمَا، وجريان أقوال التعارض.
لكن هذا الكَلاَمَ لا اخْتِصَاصَ له بهذه الحَالَةِ، بل يمكن أن يُقَالَ في الحَالَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ، وقد قَدَّمْنَا بَيِّنَةَ النَّصْرَانِيِّ؛ أن بَيِّنَةَ المُسْلِمِ تُثْبِتُ النَّصْرَانِيَّةَ في شعبان؛ لأنها تَشْهَدُ على الإسْلاَمِ فِي شوَّالِ، والإِسْلاَمُ إنما يكون عن كُفْرٍ، فليحكم بالتَّعَارُضِ. والوَجْهُ؛ أن يُرَاعَى كَيْفِيَّةُ الشهادة، فإن أُطْلِقَتِ البَيِّنَتَانِ، فَتُرَجَّحُ التي تنقل، ويعرض حدوث يُبْنَى على ما سَبَقَ.
وإن شَهِدَتْ بَيِّنَةُ النَّصْرَانِيِّ في الحَالَةِ التي نحن فيها؛ بأنهم عَايَنُوهُ حَيّاً في شَوَّالٍ، وشَهِدَتْ بَيِّنَةُ المُسْلِم في الحالتين الأوليين؛ بأنهم كَانُوا يَسْمَعُونَ كلمة التَّنصُّرِ منه إلى انْتِصَافِ شوال مَثَلاً؟ فَتَتَعَارَضُ البَيِّنَتَانِ.
ولو مَاتَ مُسْلِمٌ، وله ابْنَانِ؛ أسلم أَحَدُهُمَا قبل مَوْتِ الأب بالاتِّفَاقِ، وقال الآخَرُ: أَسْلَمْتُ أيضاً قبله. وقال المُتَّفَق على إسلامه: بل أَسْلَمْتَ بعد مَوْتِهِ، فعلى الأَحْوَال الثلاث؛ إن اقْتَصَرُوا على ذلك، أو اتَّفَقَا على أن الأب مات في رَمَضَانَ، وقال قَدِيمُ الإِسْلاَم: أسلمت في شوال. فقال: بل أَسْلَمت في شعبان، فَيُصَدَّق قَدِيمُ الإِسلام.
وإن أقاما البَيِّنَةَ، تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الآخر، وإن اتَّفَقَا على أن الآخر أَسْلَمَ في رمضان؛ فقال قَدِيمُ الإِسْلاَم: إن الأب مَاتَ في شعبان، وقال الآخَرُ: بل في شَوَّال، فالمُصَدَّق الآخَرُ، والمُقدَّمُ بَيِّنةُ قَدِيمِ الإِسلام.
وفي هذه الصورة تَكَلَّمَ الشَّافعي -رضي الله عنه- في "المختصر"، وعَامَّة الأصْحَابِ -رحمهم الله- لا في صورة الكِتَابِ والمقصود واحد.