قال الرافعي: إذا اشتبه عليه إناء طاهر بإناء نجس، واحتاج إلى الطَّهَارَةِ فماذا يفعل؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يستعمل ما شاء من غير اجتهاد ونظر؛ لأن الذي يقصده بالاستعمال غير معلوم النجاسة، والأصل فيه الطهارة.
والثاني: إنما يأخذ أحدهما إذا ظن طهارته، ولكن لا يشترط استناده إلى اجتهاد، وَأَمَارَةٍ؛ بل له أن يأخذ بما سبق وهمه إليه، وكفى ذلك مرجحاً لأصل الطهارة.
والثالثة: وهو المذهب ولم يذكر في الكتاب سواه أنه لا يجوز أخذ أحدهما إلا بالاجتهاد، وطلب علامة تغلب ظن طهارة المأخوذ، ونجاسة المتروك، لأن أصل الطهارة عارضة يقين النجاسة، وعرفنا أن ذلك الأصل، صار متروكاً إما في هذا، أو في ذاك، فيجب النظر في التعيين. وقال المزني: يتيمم ولا يجتهد، وإن كان الاشتباه في ثوبين صلى فيهما صلاتين، وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: يجتهد في الثياب، ولا يجتهد في الأواني إلا إذا كان عدد الطاهر أكثر. لنا قياس الأواني على الثياب، وقد أعلموا لفظ الكتاب بالعلامات المشعرة بهذه الاختلافات. فقوله:"لم يَجُزْ" معلم بالواو، ولفظ "الإنائين" معلم بالحاء. وقوله:"إلا باجتهاد" بالألف والزاي، ولو كان سبب الاشْتِبَاهِ إخبار عَدْلٍ إياه عن نجاسة أحدهما على الإبهام، وجب الاجتهاد كما لو عرفه بنفسه، وكذلك لو أخبره عن نجاسة أحدهما بعينه، ثم اشتبه عليه، وسبيله سبيل الرواية، وكل من تقبل روايته من ذَكَرٍ وأُنْثَى وعبد وحر يقبل قوله في ذلك، بشرط العدالة، وهل يقبل قول الصبي المميز؟ فيه وجهان (١) ويشترط أن يعلم من حال المخبر أنه لا يخبر إلا عن حقيقة؛ لأن المذاهب مختلفة في أسباب النجاسات، فقد يظن ما ليس بنجس منجساً، ولعلك تقول لفظ الكتاب يقتضي أن يكون إخبار العدل مفيداً لليقين؛ لأنه قال:"تيقن نجاسته، بمشاهدة، أو سماع من عدل" وقول الواحد لا يفيد اليقين، فاعلم أن الفقهاء كثيراً ما يعبرون بلفظ المعرفة واليقين عن الاعتقاد القوي علماً كان أو ظناً مؤكدًا، أو يجري ذلك في لسان أهل العرف أيضاً، وهذا على ذلك المذهب، ولك أن تستفيد من قوله:"لم يَجُز أخذ أحد الإنائين إلا بالاجتهاد".
فائدة وهي: النظر فيما لو خرج أحد الإنائين عن أن يستعمل إما بالانْصِبَابِ أو بِتَقَاطُرِ شيء من الآخر فيه، هل يحتاج إلى الاجتهاد في الثاني؟ الذي يقتضيه لفظ الكتاب أنه يحتاج إليه، وهو الظاهر، وفيه وجهان آخران:
(١) قال النووي: الأصح عند الجمهور لا يقبل قول المميز، ويقبل الأعمى بلا خوف، والله أعلم. الروضة ١/ ١٤٥.