للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فيفتتح بهم الصلاة ويصلِّي بهم ركعة، هذا القدر اتفقت الرواية عليه، ثم فيما يفعل بعد ذلك؟ روايتان فَصَّلَ في الكتاب إحداهما، وأجْمَل ذكر الأخرى، أما المُفَصَّلة فهي أنه إذا قام إلى الثانية، خرج المقتدون عن متابعته، وأتموا الثانية لأْنفسهم، وتشهدوا، وسلَّموا، وذهبوا إلى وجاه العدو، وجاء أولئك واقتدوا به في الثانية، وهو يطيل القيام إلى لحوقهم فإذا لحقوه صلى بهم الثانية، فإذا جلس للتشهد قاموا وأتموا الثانية، وهو ينتظرهم، فإذا لحقوه سلم بهم؟ هكذا روى مالك عن يزيد بن رومان عن صالح عن خوات بن جبير عمن صَلَّى مع النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- صَلاةَ يَومِ ذَاتِ الرِّقَاعِ" ورواه أبو داود والنسائي عن صالح عن سهل ابن خيثمة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (١).

وأما الرواية التي أجملها فهي أن الإمام إذا قام إلى الثانية لا يتم المقتدون به الصَّلاة، بل يذهبون إلى مكان إخوانهم وجاه العدو، وهم في الصَّلاة فيقفوا سكوتاً، وتجيء تلك الطَّائفة فَتُصَلِّي مع الإمام الركعة الثانية، فإذا سَلَّم ذهبت إلى وجاه العدو، وجاء الأولون إلى مكان الصَّلاة، وأتموا لأنفسهم، وذهبوا إلى وجاه العدو، وجاءت الطَّائفة الثانية إلى مكان الصَّلاة وأتمت أيضاً، وهذه رواية ابن عمر -رضي الله عنهما-.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أن الشافعي -رضي الله عنه- اختار الرواية الأولى؛ لأنها أوفق للقرآن، قال الله تعالى جده: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا} (٢). وذلك يشعر بأن الطائفة الأولى قد صَلَّت، ولأنها أليق بحال الصَّلاة، لما في الرواية الأخرى من زيادة الذهاب والرجوع، وكثرة الأفعال والاستدبار، ولا ضرورة إلى احتمال جميع ذلك، ولأنها أحوط لأمر الحرب، فإنها أخف على الطَّائفتين جميعاً، إذ الحراسة خارج الصَّلاَةِ أهون، وااَختار مالك وأحمد أيضاً ما اختاره الشافعي -رضي الله عنه- لكن مالكاً -رحمة الله عليه-، قال في رواية: إذا صلَّى الإمام بالطَّائفة الثانية الركعة الثانية تَشَهَّد بهم وَسَلَّم، ثمِ يقومون إلى تمام صلاتهم كالمسبوق في غير صلاة الخوف، ونقل الصيدلاني قولاً عن القديم مثل ذلك، وحكى صاحب "الإفصاح" والعراقيون قولاً قريباً من ذلك، فقالوا: يقومون في قول إذا بلغ الإمام موضع السَّلام، ولم يسلم بعد، وذهب أبو حنيفة إلى اختيار رواية ابن عمر -رضي الله عنهما- وقال: الطائفة الأولى: يتمون الصلاة بعد سلام الإمام بغير قراءة، لأنهم أدركوا التحريمة، فسقط عنهم القراءة في جميع الصَّلاَةِ، والطائفة الثانية يتمونها بقراءة؛ لأنهم أدركوا التحريمة.

واعلم أن إقامة الصَّلاة على الوجه المذكور ليس عزيمةً لا بُدَّ منها، بل لو صلى الإمام بطائفة وأمر غيره فصلى بالآخرين، وصلَّى بعضهم أو كلهم منفردين جاز، لكن


(١) البخاري (٤١٢٩) ومسلم (٨٤١).
(٢) سورة النساء، الآية ١٠٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>