كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يسمحون بترك فضيلة الجماعة، ويتنافسون في الاقتداء به، فأمره الله تعالى جَدُّه بترتيبهم هكذا؛ لتحوز إحدى الطائفتين فضيلة التكبيرة معه والأخرى فضيلة التسليم معه، وهل تَصِحّ الصلاة على الوجه الذي رواه ابن عمر -رضي الله عنهما-؟ ذكروا فيه قولين.
أحدهما: وتحتمل تلك الرواية على النسخ، لخبر سهل، فإنها مطلقة ورواية سهل مقيدة بذات الرقاع وهي آخر الغزوات.
وأصحهما: نعم، وبه قال أحمد؛ لصحة الرواية وعدم العلم بالنسخ، ولا سبيل إلى المصير إليه بمجرد الاحتمال.
وأرجع بعد هذا إلى ما يتعلق بنظم الكتاب: فأقول: قد سبق أن موضع هذا النوع ما إذا لم يكن العدو في جهة القبلة ثبتت ذلك من جهة النقل، ونَصَّ عليه الأصحاب، وإن لم يتعرض له لفظ الكتاب وفي معناه ما إذا كانوا في جهة القبلة، لكن كان بينهم وبين المسلمين حائل يمنع من رؤيتهم لو هجموا.
وقوله:(إن يلتحم القتال) ليس مذكوراً على سبيل الاشتراط، بل لو كان العدو قارين في معسكرهم في غير جهة القبلة، ولم يلتحم القتال بعد وكان يخاف هجومهم، فالحكم كما لو التحم فيجعلهم طائفتين، واحدة تحرس، وأخرى تقتدي به، وإذا التحم القتال، فإنما تمكن (١) هذه الصَّلاة، إذا أكثر القوم، وأمكن الانحياز لطائفة وحصل الكفاية بالباقيين، فإن لم يكن كذلك فالحال حال شدة الخوف، وسنذكرها، فلهذا قال:(ويحتمل الحال اشتغال بعضهم بالصلاة).
وقوله:(فإذا قام إلى الثانية انفردوا بالثانية) مر قوم بالحساء، لأنه عنده لا ينفرد بالثانية، إذا قام الإمام إليها بل بعد سلامة.
ثم في هذا الفصل شيئان ينبغي أن يتنبه لهما:
أحدهما: أن قوله: انفردوا بالثانية، ليس المراد منهم انفرادهم بالفعل فحسب، بل ينوون مفارقته وينفردون بالفعل، وفي حق الطائفة الثانية قال:(قاموا وأتموا الركعة الثانية) ولم يقل وانفردوا بها، لأنهم لا يخرجون عن المتابعة، كذا قاله الجمهور، وفيه شيء آخر سيأتي.
والثانية: أنه قال: (فإذا قام الإمام إلى الثانية) ولم يقل: فإذا أتم الأولى؛ لأنه الأَولى أن ينووا مفارقته بعد الانتصاب لا عند رفع رأسه من السّجود الثاني فإنهم