للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .


= أحدهما البيع فقد لزم في حقه ولو لم يفارق صاحبه. وإذا فخيار المجلس ينتهي بأحد الشيئين التفرق بالأبدان واختيار البيع. والذي يؤخذ من هذا التعريف أن كل بيع ينعقد جائزاً فيثبت لكل من العاقدين حق فسخه استقلالاً؛ وأن هذا الجواز ينتهي ويخلفه اللزوم بأحد الشيئين المتقدمين. وهذا هو مذهب الشافعية والحنابلة وجماهير الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، وهو أيضاً مذهب الظاهرية فقد جعلوا لكل من الحاقدين حق فسخ البيع ما دام مجلس العقد قائماً، ولكن على معنى آخر غير الذي ذهب إليه الجمهور. وهذا المعنى هو أن عقد البيع لا يتم عندهم إلا بالفرق أو التخاير، فما لم يوجد أحدهما فالعقد غير تام بل وغير صحيح فلكل منهما فسخه لذلك. بينما هو عند الجمهور عقد تام ولكن متصف بصفة الجواز. ويقابل هذا المذهب -أعني مذهب الجمهور- مذهب الحنفية والمالكية إبراهيم النخعي. فإنهم يرون أن عقد البيع ينعقد لازماً فليس يجوز لواحد منهما ما دامت صيغة العقد تمت بالإيجاب والقبول أن يفسخ البيع استقلالاً كما هو مذهب الأولين.
حجة الجمهور: هي السنة والمعقول. أما السنة:
فأولاً: ما روي عن ابن عمر -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: " المُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اخْتَرْ" وهذا الحديث قد روِيَ عن ابن عمر بروايات كثيرة نكتفي منها بهذه الرواية -وهذا الحديث متفق عليه.
وثانياً: ما روي عن حكيم بن حزام -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "البَائِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعَهِمَا، وَإِنْ كَذِبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا" متفق عليه كذلك.
وثالثاً: ما روي عن أبي الوضيء قال: غزونا غزوة، فنزلنا، منزلاً، فباع صاحب لنا فرساً بغلام، ثم أقاما بقية يومهما وليلتهما، فلما أصبحا من الغد قام الرجل إلى فرسه يسرجه فندم، فأتى الرجل وأخذه بالبيع، فأبى الرجل أن يرفعه إليه. فقال بيني وبينك أبو برزة صاحب النبي -صلى الله عليه وسلم-. فأتيا أبا برزة في ناحية العسكر، فقالا له هذه القصة. فقال: أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "البَيْعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا" وما أراكما افترقتما -أخرجه أبو داود وابن ماجة مختصراً بدون القصة.
وجه الدلالة من هذه الأحاديث ظاهر حيث جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- للمتبايعين الخيار في البيع بعده إلى التفرق. لأنهما لا يكونان متبايعين حقيقة إلا وقد وقع بينهما البيع، إذ هو وصف مشتق منه، والبيع حقيقته الإيجاب والقبول، وفي الحديث زيادة انتهاء الخيار بتخيير أحدهما صاحبه، وهي زيادة عدل ثقة فتكون مقبولة. والمتبادر من التفرق إنما هو التفرق بالأبدان لا بالأقوال، والتبادر من أمارات البيعة، وفي قصة أبي برزة ما يدل عليه؛ لأن البيع كان قد تم بينهما. وقد ظهر من هذه الأحاديث أن الخيار ثابت لهما بعد البيع إلى أن يتفرقا بأبدانهما أو يخير أحدهما صاحبه. وهذا هو معنى خيار المجلس. وأما المعقول -فهو أن الحاجة داعية إلى شرع هذا الخيار، لأن الإنسان قد يندفع إلى البيع تحت تأثير رغبة ملحة، أو خوف فوات فرصة، فيغالي في الثمن إن كان مشترياً ويتساهل فيه إن كان بائعاً، وبعد أن يحصل له ويرتاح باله تعاوده الفكرة فيرى غبنه فيود لو تخلص منه. فشرع خيار المجلس موفر على العاقد هذه الرغبة، وموافق للمصلحة =

<<  <  ج: ص:  >  >>