وأما المالكية: فمذهبهم يتلخص في دعويَين: الأولى: صحة بيع الغائب المجهول على خيار الرؤية. والثانية: صحة بيع الغائب الموصوف بدون شرط خيار الرؤية وللمشتري الخيار إذا رآه قد تخلف وصفه. وهم في الدعوى الأولى لم يجعلوا خيار الرؤية من مقتضيات العقد على الغائب كما فعل الحنفية؛ لأن مقتضى العقد إنما يعرف بالشرع ولم يرد دليل صحيح على أن خيار الرؤية مقتضى العقد على الغائب. وهم من أجل ذلك لم يعتمدوا حديث: "مَنِ اشْتَرَى شَيْئاً لَمْ يَرَه ... الخ". وكل ما يمكن أن يؤخذ من كتبهم في الاستدلال على هذه الدعوى. هو أنه لو لم يشرط خيار الرؤية، لكان هذا البيع بيع غرر مثار للشحناء والنزاع لجهالة المبيع وهذا بخلاف ما لو شرط المشتري أنه بالخيار إذا رآه لانقطاع النزاع بسبب هذا الشرط لأن المشتري حينئذ يكون هو وحده حر التصرف إن شاء فسخ البيع وإن شاء أمضاه. وأما الدعوى الثانية فهي ذات شقين: الأول منهما صحة بيع المعين الغائب الموصوف. والثاني منهما أن الخيار للمشتري إذا رآه في حال تخلف الوصف فحسب. أما الشق الأول: فالدليل عليه قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} إذ هو عام يتناول كل بيع، فلا يجوز إخراج شيء منه إلا بالدليل ولم يدل دليل من كتاب ولا من سنة ولا من قياس صحيح على إخراج بيع الغائب الموصوف من حكم هذا العموم، وليس هو من بيوع الغرر المنهي عنها، لأن الوصف يقوم مقام الرؤية في العلم بالبيع. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تُنْعَتُ المَرْأةُ لِلزَّوْجِ حَتَّى كَأَنَّه يَنْظُرُ إِلَيْهَا" فجعل النعت منزلاً منزلة الرؤية. وكذلك يستدل له بقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} إذ بالوصف يتحقق الرضا بخلاف غير الموصوف لأنه لا رضا إلا بعد العلم وهو كما يعتمد الرؤية يعتمد الوصف. ومن الدليل عليه أيضاً قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَبِيْعُوا الحَبُّ فِي سُنْبُلهِ حَتَّى يَبْيَضَّ فِي أَكْمَامِهِ" لأن الحب في سنبله مستور فهو منزل منزلة الغائب، وبياضه إنما يعرف بالفرك. فإذا جاز بيعه وهو في سنبله على صفة ما فرك منه جاز بيعه على الوصف كذلك بدون الفرك ما دام المبيع هو غير ما فرك في الحالين. ويمكن أن يستدل له بالقياس على السلم بجامع أن كلا منهما مبيع موصوف غير مرئي. وأما الشق الثاني: فبالقياس له على خيار العيب فكما يثبت للمشتري الخيار إذا اطلع على عيب قديم بالمبيع لم يعلم به حين العقد كذلك يثبت له الخيار، إذا تخلف وصف وصف به المبيع لأن العيب ما هو إلا تخلف وصف السلامة ولما كان مذهب الحنابلة هو عين الدعوى الثانية من مذهب المالكية كانت الأدلة المتقدمة صالحة لتأييد مذهب الحنابلة. وأما الظاهرية: فالذي يعنينا من مذهبهم هو قولهم إن الغائب الموصوف إذا ما تخلف وصفه فالبيع فيه باطل وقد استدلوا له بأن المشتري إنما عقد على موصوف بصفة كذا فإذا ما تخلف الوصف كان ذلك المبيع غير المعقود عليه في حقيقة الأمر فيكون البيع باطلاً لو ردده على غير محل. وأما الشافعية: فاستدلوا لمذهبهم الجديد أعني لبطلان بيع الغائب مطلقاً موصوفاً أو غير موصوف بالسنة والقياس أما السنة: =