والثاني: المَنْعُ، وُيُجْعَل متبرِّعاً؛ لأنا، لو جوَّزناه، لاحتجنا إلى قبول قوله فيما يدَّعيه لنَفْسِه، وهو بعيدٌ، وإذا قلْنا بالأول، نُبَالِ به، وجعلَنا القول قوله، إذا اختلَفَا في قدر ما أنفق.
وعن صاحِب "التقريب" وَجْهٌ آخر: إن القَوْلَ قولُ المكْرِي؛ لأن الأصْل براءةُ ذمَّتِه، ولو أنفق المكْتَرِي بغَيْر إذْن الحاكم مع إمْكَان مراجعته، لم يرجع، وإن لم يكن حاكمٌ، فعلى ما ذكرنا في عاملِ المُسَاقاة، إذا هرب, قال الإمام: ولو كان في الموضِعِ حاكمٌ، وعُسَر إثبات الواقعة عنْدَه، فكما لو لَمْ يكُنْ حاكمٌ، فإذا أثبتنا الرجُوعَ فيما إذَا أنفق من غَيْر مراجعَةِ الحاكم فلو اختلفا، فالقَوْل قولُ الجَمَّال؛ لأن اتِّفاق المكتري لم يستند إلى ائتمانٍ من جهَةِ الحاكم.
قال: وفيه احتمالٌ؛ لأن الشَّرْعَ سَلَّطَهُ علَيْه، فإذا انقَضَتْ مدَّةُ الإجارة، ولم يعد الجمَّال، باع الحاكم منها ما يَقْضِي بثمنه ما اقْتَرَضَ، ويحْفَظُ سائرها، فإن رأَى بيعها لئلا يأكل بنفسها فعل.
الأُولَى: إِذا اكترَى دابَّةً، أو داراً مدَّةً وقبَضَها، وأمسَكهَا، حتَّى مضَتِ المدَّة، انتهت الإجارةُ، واستقرَّتِ الأجرة، سواءٌ انتفع بها في المدَّة أم لا, وليْسَ له الانتفاعُ بعد المُدَّة، ولو فعَل، لَزِمَه أجرةُ المثْل مع المسمَّى، ولو ضبطت المنفعةُ بالعمل دون المدَّة، كما إذا استأجر دابَّةً ليركبها إلَى بَلَدٍ، أو ليحمل عليها إلَى موضِعٍ معلومٍ، وقبضها وأمسكها عنْده، حتى مضَتْ مدَّة يُمْكِن فيها المسيرُ إلَيْه، فكذلك تستقرُّ عليه الأجرة؛ خلافاً لأبي حنيفة رضي الله عنه.
لنا: إن المُكْرِي مكَّنه من الانتفاع بأقْصَى المقدور عَلَيْه، فتستقر له الأجرةُ، كما لو كان الضبْطُ بالمدة، ولا فَرْق بين أن يكون تخلُّف المكتري لعُذْرٍ، أو من غيْر عذْرٍ، حتى لو تخلَّف؛ لخوفٍ في الطريق، أو لعدَم وُجْدانِ الرُّفقة، استقرَّت الأجرةُ عليه، وإن كان معذوراً من جهة أنَّه لو خرَجَ، والحالَة هذه، كان متعدِّياً ضامناً للدِّيَة، وإنما استقرَّت الأجرةُ عليه؛ لأن عِوَضها وهي منافعُ المدةِ تَلِفَتْ عنده على أنه متمكِّنٌ من السَّفَر عليها إلى بلدٍ آخَرَ، ومِنِ استعْمالها في البلد تلْكَ المدة، وليس للمكْتَرِي فَسْخُ العقد بهذا السبب، ولا أنْ يُلْزِمَ المكْرِيَ استردادَ الدابَّة إلى أن يتيسَّر الخروج، هذا في