للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ الرَّافِعِيُّ: لا يصحُّ الوقْفُ إلاَّ باللَّفْظُ (١)؛ لأنَّه تَمْلِيكُ منفعةٍ أو عين منفعه، فأشْبه سائرَ التَّمْلِيكات، وأيضاً، فالعِتْق لا يحْصُل إلا باللفظ مع سرعة نفوذه، فالوَقْفُ أولَى. وعلَى هذا، فلو بنَى بناءً على هيئة المساجد، أو عَلَى غير هيئتها، وأذن في الصَّلاة فيه، لم يَصِرْ مسْجداً، وكذا لو أذنَ في الدَّفْن في ملكه، لم يصر مقبرةً، سواءٌ صلَّى في ذَلك أو دفن في هذا، أو لَمْ يفعل.

وقال أبو حنيفة -رضي الله عنه-: إذا صلَّى فيه، صار مَسْجِداً، وإذَا دُفِنَ في المَوْضع ميِّتٌ واحدٌ صار مقبرةً، وتَمَّ الوقف. وقوله: "ما لم يَقُلْ جعلْتُه مسْجِداً" ظاهر في أنَّه إذا أتَى بهذا اللفظ يصير مسْجِداً، وإن لم يوجَدْ فيه شيْءٌ من ألفاظ الوَقْفِ الَّتي سنَذْكُرها. بل حكَى الإمَامُ أَنَّ الأَصْحَابَ تردَّدوا في استعمالِ لَفْظ الوقْف فيما يضَاهِي التجريد كما إذا قال مالكُ البقْعة: وقَفْتُها عَلَى صلاةِ المصْلِّين، وهو يبغي جعْلَهَا مَسْجِداً. وفي "التهذيب" و"التتمة": أنَّ المَكَانَ لا يصيرُ مَسْجداً بقوله: جعلْتُه مسجداً؛ لأنَّه لم يوجَدْ شيْءٌ من ألفاظ الوقْف، وبه أجاب الأستاذُ أبو طاهر، قال: لأنَّه وصفه بما هو موصوفٌ به، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً" (٢).

نَعَمْ، لو قال: جعَلْتُهُ مسْجِداً لله [عَزَّ وَجَلَّ] يصيرُ مَسْجِداً، وهذا ذَهَابٌ إلَى أنه لا بُدَّ من لفظ الوقْف، فانظر ما بين الكلامَيْن من التباعُدِ.

والأشْبهُ أنَّه لا بأسَ باستعمال لفظ الوقف، وأنَّ قوله: "جعلْتُه مسْجداً" يقوم مقامه؛ لإشعاره بالمقصود واشتهاره فيه، إذا عرَفْتَ ذلك، فلنتكلم في إيجاب الوَقْف، ثم في قبوله. أمَّا الإيجابُ، فإنَّه جعَلَه عَلَى مراتب.

إحداها: أن يقول: وقفتُ كذا أو حبَّسْتُ أو سَبَّلت أو أرْضِي موقوفةٌ أو محبسةٌ أو مسبلةٌ، فكل ذلك صريحٌ؛ لكثرةِ استعمالِهِ، واشتهارِهِ شَرْعاً وعُرْفاً، وقد روَيْنا في حديث عُمَرَ -رضي الله عنه- أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال "حَبْسُ الأَصْلِ وَسَبْلُ الثَّمَرَةِ". هذا ظاهرُ المذهَب. وعن الإصْطَخْرِيِّ: أنَّ التحبيسَ والتَّسْبِيل كنايتان؛ لأنَّهما لم يشتهرا اشتهارَ الوَقْف. وعنه رواية أخرَى: أنَّ التحبيسَ صَرِيحٌ، والتَّسْبيلَ كنايةٌ؛ لأنَّ التسبيل من السبيل، وهو مُبْهمٌ، والتَّحْبِيسَ حَبْسُ المِلْكِ في الرقبة عن التصرُّفات المُزِيلة، وهو معنَى الوَقْف.


(١) يستثنى من ذلك ما إذا بنى مسجداً في موات ونوى به المسجد فإنه يصير مسجداً ولم يحتج إلى قول، قاله الماوردي والروياني قالا: لأن الفعل مع النية يغنيان عن القول، وخالف الفارقي ذلك ومحل ما ذكره الشيخ في الناطق أما الأخرس فيصح منه بالإشارة.
(٢) تقدم في التميم.

<<  <  ج: ص:  >  >>