للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الكتاب من غير الإِشهاد، واحتج بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عنْدَهُ" أشعر ذلك باعتبار الكتابة.

واعلم أن انعقاد الوصيَّة بالكتابة ليس ببَعيدٍ، وإن استبعَدَهُ؛ لأن الكتابة [بمثابة] كنايات الألفاظ، وقد سبق في "البيع" ذُكْرُ الخلاف في انعقاد البيع ونَحْوه بالكناية، وذكرنا الآن أن الوصيَّة أشدُّ قبولًا للكنايات، فإذا كتب وقال: نويتُ الوصيَّة لفلانٍ أو اعترف الورثةُ به بعد موته، وَجَبَ أنْ يصحَّ.

ولو اعتقلَ لِسَانُهُ، صحَّت وصيته بالاشارَةِ والكتابةِ، وقد رُوِيَ أن أمامة بِنْتَ أبي العَاص أُصْمِتَتْ، فقيل لها: لفلانٍ كذا, ولفلانٍ كذا، فأشارتْ أنْ نَعَمْ، فجُعِلَ ذلك وصيةً (١).

وأما القبول، فإن كانت الوصيةُ لغَيْر مُعَيَّنٍ؛ كالفقراء والمساكين، لزمت بالموت، ولم يُشْتَرطْ فيها القبول، وإن كانت الوصية لمُعَيَّنٍ، فلا بُدَّ من القبول، كما في الهبة، ويجيء فيه خلافٌ من قولٍ، سنذكره في أن الموصَى به يُمْلَكُ بالموت، فإن صحة الوصية على هذا القول مستغنيةٌ عن القُبُول.

ولا يصحُّ قبول الوصية، ولا ردُّها في حياة الموصي وله الردُّ، وإن قَبِلَ في الحياة وبالعكس، وذلك لأنه لا حَقَّ له قبل الموت؛ إذْ هي إيجابُ مِلْكٍ بعد الموت، فأشبه إسقاط الشفعة قبل البيع، وعن أبي حنيفة -رحمه الله- أنه إذا قبل في الحياة لم يكن له الرد بعد الموت [وإذا رد في الحياة، كان له القُبُول بعد الموت، ولا يشترط القبول في الفور بعد الموت وإنما] (٢). يُشتَرَطُ ذلك في العقود الناجزة، التي يُعتَبَرُ فيها ارتباطُ القَبُول بالإيجاب، ثم للردِّ بعد الموت أَحوال.

أحدها: أن يقع قبل القبول، فترتد الوصية، ويستقر الملْكُ للورثة، إن كان الموصى (٣) به عَيْنَ مالٍ أو منفعته، فالعين للورثة، ولو أوصَى بالعين لواحدٍ، وبالمنفعة لآخر، فردَّ الموصَى له المنافع، فهي للورثة، أم للموصَى له الآخَرِ؟ فيه وجهان؛ أشبههما: الأول، ولو أوصَى بخدمة عبد لإنسانٍ سنَةً، وقال: هو حرٌّ بعد سنة، فرد الموصَى له، لم يعتق قبل السنة، خلافًا لمالك -رحمه الله-.

الثانية: أن يقع بعد القَبُول وقَبْض الموصَى له، فلا تصحُّ، فان رضي الورثةُ، فهو ابتداءُ تمليكٍ إِيَّاهُم.


(١) ذكر القاضي أبو الطيب والبندنيجي وغيرهما أنه يدخل ملك الوارث من حين الرد فتقطن له. فإن عبارة الرافعي توهم خلافه.
(٢) سقط في: أ، ز.
(٣) في ب: المولى.

<<  <  ج: ص:  >  >>