أما الأول: فلأن دين من تحمل لإصلاح ذات البين مقضيٌّ مع اليسار لا محالة؛ إنما الخلاف في أنه هل يقضي مع اليسار بكل نوع من المال؟ وهاهنا لا تفصيل.
وأما الثاني: فلأن ذلك الخلاف فيمن تحمل لإصلاح ذاتِ البين، وفيه مصلحة عامَّة، بخلافه، فلا يحسُنُ الإلْحَاق.
ووُجِّه أحد الوجهين في الكتاب: بالقياس على الحَمَّالة؛ لأنه محتمل لمصلحة الغير.
والثاني: بأن الصرف إلى الأصل ممكنٌ، وإذا برئ الأصل، برئ الكفيل؛ فلا حاجة إلى الصرف إلى الضامن، وقد ظهر الفرق بينه وبين الحَمَّالة، وهذا أشبه، وبه أجاب الحَنَّاطِيُّ وغيره وقوله في الكتاب:"دَيْنٌ لزمه بسبب نفسه فيُقْضى"، وقوله:"فيقضَى دَينُهُ" في هذه اللفظة المتكررة تنبيه على أن الغارم، إنما يعطَى عند بقاء الدَّيْن، فأما إذا أداه من ماله، فلا يقضى؛ لأنه لم يبق غارماً، وبهذا يعرف أنه في الابتداء لو بذل ماله فيه، لم يعط بخلاف ما لو اسْتَدَان، وربما أوهم نظم "التهذيب" خلافه؛ لأنه قال: إذا كان دَينُه لإصلاح ذاتِ البين؛ بأن كانت بين فتْنَتَيْن ثائرةٌ؛ فاستدان مالاً في تسكينها، أو تحمَّل مالاً لتسكينها، ثم ساق الكلام، والمعتمد الأول.
وقوله:"بسبب حَمَّالة الحَمَّالة" بالفتح: ما يتحمَّل عن القوم من دية أو غرامة.
وقوله:"وإن كان موسراً" مُعْلَمٌ بالحاء؛ لأن عند أبي حنيفة لا تصرف الصدقة إلَى غنيٍّ أصلاً.
فرع: ألحق أبو الفرج السرخسيُّ ما استدان لعمارة المسجد وقِرَي الضيف حكْمَ ما استدان للنفقة وسائر مصالح نفسه، وحكى الرويانيُّ في "الحِلْيَة" عن بعض الأصحاب: أنه يعطَى من الصدقات مع الغَنَى بالعقار، ولا يعطَى له مَعَ الغنَى بالنقد، قال:"وهذا هو الاخْتِيَار".
واعلم: أنَّ القول، بأنه يُقْضَى مع الغنَى بالعقار، ولا يقضَى مع الغنى بالنقد، يوجب انتهاض هذا الدَّيْن مرتبةً متوسطةً بين ما استدانه لنفسه، وبين ما استدانه لإصْلاح ذات البين؛ لمَا سبق أن الظاهر في النوع الأوَّل؛ أنه لا يقضي مع الغناء بالعقَارِ، وفي الثاني؛ أنه يقضي مع الغناء بالنقد.
آخَرُ: يجوز صرف سهم الغارمين إلى المديون بغير إذن ربِّ الدين، ولا يجوز صرفه إلى رب الدين بغير إذن المديون، لكن يسقط من الدين قدْرُ المصروف على ما مَرَّ في سهم الرقاب، ويجوز صرفه إليه بإذن المديون، وهو أولَى إلا إذا لم يكن وافياً بالدَّيْن، وأراد المديون أنَّ يتَّجِرَ فيه.