وأما قوله تعالى: {فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} فسياق الآية يقتضي بأن هذا في غير النكاح إذ الآية قبلها في عِدة الوفاة، والمرأة فيها ممنوعة من الزينة والخروج، مأمورة بالإحداد، فرفع الله عنها هذه القيود التي التزمتها في العدة بقوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ}. ويقال لهم في الحديث الأول أنه يحتمل أن تكون أحق من وليها في الإِذن والعقد، ويحتمل أن تكون أحق منه في الإذن والرضا؛ بأن لا تزوج حتى تنطق بالإِذن، بخلاف البكر. والمراد هنا الاحتمال الثاني، وهو أنه لا يعقد عليها إلا بإِذنها ورضاها، ومما يؤيد أن المراد الاحتمال الثاني قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِي" مَع غيره من الأحاديث الدالة على اشتراط الولي. ويقال لهم في حديث أُم سَلَمة أنه محمولٌ على الخصوصية فقد عهد اختصاص النبي -صلى الله عليه وسلم- في باب النكاح بأمور كثيرة إذ إننا إنما نحتاج للولي لرعاية المصلحة إذ إن المرأة لنقصان عَقلها قد تُخْدَع، والنبي -صلى الله عليه وسلم- خير زوجٍ فلا يصح لإنسان أن ينظرُ بعْدَ نَظرِه. وأما المعقول: فيقال لهم فيه لا نسلم أنها عند مباشرتها العقدَ؛ تكون قد تصرفت في خالص حقها، بل تصرفت في أمر تعلق به حق الأولياء، وما من شك في أنَّ مشروعية النكاح على الأصالة إنما هي بناءُ الأُسر؛ والمحافظة على الأَعراض التي لا يصونها إلا وَلي خاص يُؤمَنْ على العِرض منى تلويثه. واستدل الشعبي والزهري بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لأم سَلَمة "لَيْسَ أَحدٌ مِن أَوْليَائِكِ شَاهِدٌ وَلاَ غَائِبٌ يَكْرَهُ ذَلِكَ" جواباً لقولها "لَيْسَ أَحَدٌ مِن أَوْلِيَائِي شَاهِداً". فإنه يدل على صحة العقد من المرأة، حيث لا يكون هناك موجب لكراهة الأولياء، بأن توفرت الكفاءة، ويدل بمفهومه على خلاف هذا ويقال للشعبي والزهري في استدلالهما بهذا الحديث ما قلناه فيه عند مناقشة أدلة الحنفية واستدل محمد ابن الحسن بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أيُّمَا امرأةً نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فِنَكَاحُهَا بَاطِلٌ". ووجه الدلالة من هذا الحديث أنه يدل بمنطوقه على أن المرأة إذا نُكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، ويدل بمفهومه على أنها إذا نكحت نفسها بإذن وليها فنكاحها صحيح. ويقول: إن الإِذن أعم من أن يكون سابقاً أو لاحِقاً. ويقال له في استدلاله بهذا الحديث أنه استدلال بالمفهوم؛ وأنت لا تقول به. واستدل أبو ثور على أن الشرط هو إذن الولي بنفس حديث عائشة الذي استدل به محمَّد بن الحسن. ووجه الدلالة فيه أنه صريح في أن نكاحَ المرأةِ نفسها إِنَّما يكون باطلاً إذا كان بغير إذن الولي، ومفهومه أنها لو نكحت نفسها بإذن وَلِّيها صح نكاحها، ويرد هذا بأن استدلال بالمفهوم، والمفهوم إنما يستدل به إذا لم يخرج الكلام مخرج الغالب، وهنا كذلك. واستدل داود الظاهري، ومن وافقه بحديث "الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِن وَليِّهَا" ووجه الدلالة فيه أنه صريح في أن الثيب أحق بنفسها من وليها ومن ذلك أن تباشر عقد نكاحها. ويرد هذا بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أَثبت لها حقاً، ومعناه أنها أحق بنفسها في أن لا يعقد عليها الولي إلا برضاها؛ لأنها أحق بنفسها في أن تعقد على نفسها، على أن داود -كما قال النووي- قد ناقض =