وحصر القبلة فيها. وإذا عرفت ذلك ففي الفصل ثلاث صور:
إحداها: لو وقف على طرف من أطراف البيت وبعض بدنه في محاذاة ركن والباقي خارج ففي صحة صلاته وجهان:
أحدهما: تصح؛ لأنه توجه إلى الكعبة بوجه وحصل أصل الاستقبال، وأصحهما لا تصح؛ لأنه يصدق أن يقال ما استقبل الكعبة إنما استقبلها بعضه.
الثانية: الإمام يقف خلف المقام والقوم يقفون مستدبرين بالبيت، فلو استطال الصف خلفه ولم يستديروا فصلاة الخارجين عن محاذاة الكعبة باطلة؛ لأنهم لا يسمون مستقبلين، وذكر صاحب "التهذيب" وغيره من أصحابنا أن أبا حنيفة يصحح صلاة الخارجين عن محاذاة الكعبة، لأن الجهة كافية عندها وعلم لهذا قوله في الكتاب:(والخارج عن سمت البيت لا صلاة له) بالحاء، لكن أبا الحسن الكرخي وغيره من أصحاب أبي حنيفة فَصَّلوا وقالوا: الفرض على المصلي استقبال القبلة وإصابة عينها إذا قدر عليها، أو الجهة إذا لم يقدر على عينها وهذا يدل على أنه إنما يكتفي بالجهة حق البعيد الذي لا يقدر على إصابة العين لا مطلقاً.
الثالثة: لو تراخى الصف الطويل ووقفوا في آخر باب المسجد صحت صلاتهم؛ لأن المتبع اسم الاستقبال وهو يختلف بالقرب والبعد، ولهذا يزول اسم الاستقبال عن القريب بانحراف يسير، ولا يزول عن البعيد بمثلة، والمعنى فيه أن الحرم الصغير كلما ازداد القوم عنه بعداً ازدادوا له محاذاة كغرض الرماة وغيره.
قال الرافعي: المصلي بمكة خارج المسجد إن كان يعاين الكعبة كمن هو على جبل "أبي قبيس" صلى إليها بالمعاينة، ولو سوى محرابه بناء على العيان صلى إليه أبداً؛ لأنه يستيقن الإصابة، ولا حاجة في كل صلاة إلى معاينة الكعبة، وفي معنى المعاين المكي الذي نشأ بمكة وتيقن إصابة الكعبة وإن لم يشاهدها حين يصلي، وأما إذا لم يعاين الكعبة ولا تيقن الإصابة فيستدل بما أمكنه ويسوي محرابه بناء على الأدلة، هذا ما ذكره في الكتاب، وحكاه في "النهاية" عن العراقيين، وأنهم قالوا: لا يكلف الرقي إلى سطح الدّار مع إمكان العيان، واعتمدوا فيه ما صادفوا أهل مكة عليه في جميع الأعصار.
قال: وفيه نظر عندي فإن اعتماد الاجتهاد بمكة مع إمكان البناء على العيان بعيد، وسنذكر في الركن الثالث -إن شاء الله تعالى- ما يزداد به هذا الفصل وضوحاً.
قال الغزالي: وَالوَاقِفُ بِالمَدِينَةِ يُنَزِّلُ مِحْرَابَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فِي حَقّهِ مَنْزِلَةَ الْكَعْبَةِ