للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَلَيْسَ لَهُ الاجْتِهَادُ فِيه بالتَّيَامُنِ والتَّيَاسُرِ، وَهَلْ لَه ذلِكَ فِي سَائِرِ البِلاَدِ؟ فَعَلَى وَجْهَيْنِ.

قال الرافعي: محراب الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة نازل منزلة الكعبة؛ لأنه لا يقر على الخطأ فهو صواب قطعاً، وإذا كان كذلك فمن يعاينه يستقبله، ويسوي محرابه عليه، إما بناء على العيان أو استدلالاً كما ذكرنا في الكعبة، ولا يجوز العدول عنه إلى جهة أخرى بالاجتهاد بحال، وفي معنى المدينة سائر البقاع التي صلى فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا ضبط المحراب، وكذلك المحاريب المنصوبة في بلاد المسلمين، وفي الطرق التي هي جادتهم يتعين التوجه إليها، ولا يجوز الاجتهاد معها، وكذلك في القرية الصغيرة إذا نشأ فيها قرون من المسلمين، ولا اعتماد على العلامة المنصوبة في الطريق الذي يندر مرور الناس بها، أو يستوي فيه مرور المسلمين والكفار، وفي القرية الخربة التي لا يدري أنها من بناء المسلمين أو الكفار، ولا بد من الاجتهاد في هذه المواضع، وإذا منعنا من الاجتهاد في الجهة فهل يجوز الاجتهاد في التيامن والتياسر؟ أما في محراب الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلا، ولو تخيل عارف بأدلة القبلة أن الصواب فيه يتبامن أو يتياسر فليس له ذلك، وخياله باطل.

وأما في سائر البلاد فعلى وجهين أصحهما: -ولم يذكر الأكثرون- سواه أنه يجوز؛ لأن الخطأ في الجهة مع استمرار الخلق واتفاقهم ممتنع، لكن الخطأ في الانحراف يمنة ويسرة مما لا يبعد، ويقال إن عبد الله بن المبارك كان يقول بعد رجوعه من الحج: "تياسروا يا أهل مرو".

والثاني: أنه لا يجوز احتمال إصابة الخلق الكثير أقرب وأظهر من احتمال إصابة الواحد، وهذا يستوي فيه الجهة والانحراف يمنة ويسرة، وفصل القاضي الرُّويَاني وغيره بين البلاد بعد المدينة، فجعلوا قبلة "الكوفة" صواباً يقيناً كقبلة المدينة؛ لأنه صلى إليها الصحابة، ولم يجعلوا قبلة البصرة يقيناً، وقضية هذا الكلام جواز الاجتهاد في التيامن والتياسر في قبلة البصرة دون الكوفة، وفيما علق عن ابن يونس القزويني (١) مثل هذا الفرق فإنه قال: قبلة الكوفة قد صلى إليها عليٌّ -كرم الله وجهه- مع عامة الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين-، ولا اجتهاد مع إجماع الصحابة -رضي الله عنهم-. قال: واختلف أصحابنا: في قبلة البصرة، فمنهم من قال: هي صواب أيضاً كقبلة الكوفة ومنهم من جوز فيها الاجتهاد وفرق بأن قبلة الكوفة نصبها علي -رضي الله عنه- وقبلة البصرة نصبها عتبة بن غزوان، والصواب في فعل علي -رضي الله عنه- أقرب، ثم حكى في قبلة سائر البلاد وجهين، وجعل أصحهما جواز الاجتهاد فيها، وهذا إن عني به الاجتهاد في الجهة من أصلها فهو بعيد بمرة، بل الذي قطع به معظم الأصحاب منع


(١)

<<  <  ج: ص:  >  >>