للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعلى الثاني: بأن العمديَّة قضيَّة حسِّيَّة لا تختلف بالجارح والمثقل، وكما يُؤَثِّر الجارح في الظاهر بالشَّقِّ والتخريب، يؤثِّر المثقل في الباطن بالهدِّ والترضيض، وفي كلام الإِمام -رحمه الله- نحو من ذلك، واختار في "الوسيط" بعد الاعتراض طريقةً ثالثةً، وهي التي أوردها [ها] هنا، وهي مشتملة على الفارق بين الجارح والمثقل بالمُعْتَرَضِ عليه، وشرْحُها أن إفضاء الفعْلِ إلى الهلاك عَلَى ثلاث مراتِبَ غَالِبٍ وكثيرٍ ونادرِ، والكثيرُ مرتبةٌ متوسطةٌ بين الغالب والنَّادِرِ، ومثَّل ذلك بالصحَّة والمرض والجذام مثلاً، فالصحَّة هي الغالبة في الناس، والجذام نادرٌ ومطلق المَرَضِ ليس غالباً ولا نادراً، فهو الذي نسميه كثيراً، فإن ضَرَبَه بما يُهْلِك غالباً، جارحاً كان أو مثقلاً، فهو عَمْد يتعلَّق به القصاصُ، وإن كان يهلك كثيراً، فكذلك الحُكْمُ، إن كان جارحًا كالسِّكِّين الصغير، وإن كان مثقلاً، كالسوط والعَصَا، لم يتعلَّق به القصاص، وإن كان يهلك نادراً، فكذلك لا يتعلَّق به القصاص، وإن كان جارحاً كغرز الإبرة التي تعقب ألماً، ولا ورماً، وفرق بين الجارح وغيره؛ بأن الجراحات لها نكاية في الباطن، وتأثيراتٌ خفيةٌ يَعْسُر الوقوف عليها، وقد تهلك الجراحةُ الصغيرةُ، ولا تهلك الكبيرةُ الواسعةُ، فنعتبر نفس الجراحة وصلاحيتها، وبأن الجرح هو الطريق الذي يسلكه من يَقْصِد الإهلاك غالباً، فيناط به القصاص، وإن لم يكُنْ قدر ذلك الجرح مهلكاً غالباً وما لا يجرح، ليس طريقاً غالباً، فيعتبر فيه كونُهُ مهلكاً لمثل هذا الشخص غالباً، فيحتاج فيه إلى النَّظَر والاجتهاد؛ لاختلافه باختلاف الأشخاص والأحوال، والعبارَةُ الدائرة في كلام أكثر الأصحاب أنَّه إنْ ضَرَبَهُ عمْداً، بما يموت منه غالباً، فمات منه، فقد قتله عمْداً، وإن ضربه عمْداً بما لا يموت منه غالباً، فمات منه فهو شبْهُ (١) عَمْدٍ؛ ويمكن ردُّ هذا وما أورده في الكتاب، واختاره إلى شيْءٍ واحدٍ.

إذا تقرَّر ذلك، فلو جَرَحَه بمحدّد من حديد أو خشب أو حجر أو قصب أو زجاج أو نحاس وغيرها، فمات في الحال أو بَعْد مدَّةِ بِسِرَايَةِ تلْكَ الجراحةِ، وجَب القصاصُ، والطَّعْنُ بالسَّنَان وغَرْزُ المَسلَّة كالضرب بالسيف، وهذا في الجراحات الَّتِي لها وقْعٌ وتأثيرٌ، فأما إبانة فَلْقَة خفيفة مِنَ اللحم، فهو كغَرْز الابرة كذلك، ذكره الإِمام -رحمه الله-، ولو غرز فيه إبرةً، فمات، نُظِرَ؛ إن غرزها في مَقْتَلٍ، وجب القصاص؛ لِخَطَرِ الموضع، وشدة تأثره، ومما عُدَّ من المقتلِ الدماغ والعينان، وأصول الأذُنَيْن، والحَلْقُ،


(١) يشرط مع كونه يقتل غالباً أن يعرف إنه إنسان حتى يخرج ما لو رمى إلى شخص اعتقد أنه نخلة فكان إنساناً لا يكون عمداً على الصحيح بل هو خطأ على الصحيح وبه قطع الشيخ أبو محمد. ذكره الشيخ البلقيني في تصحيح المنهاج واعتبار الشيخ قصد الفعل، والشخص يخرج ما لو رمى إلى شخصين أو جماعة وقصد إصابة أي واحد كأن فاته لا يكون عمداً موجباً للقصاص.

<<  <  ج: ص:  >  >>