للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المُرْدِي، وَخَرَّجَ الرَّبِيعُ قَوْلاً أَنَّهُ لاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ وَتَجِبُ الدِّيَةُ لِأَنَّ اخْتِيَارَ الحَيَوَانِ شُبْهَةٌ.

قَالَ الرَّافِعِيُّ: المرتبة مسألتان:

إحداهما: لو رَمَاه إنْسَانٌ من شاهقِ جبلٍ، فتلقَّاه إنسانٌ بسيفه، فقده بنصْفَيْن، أو ضرب رقبته -قبْل أن يصيب الأرض، فالقِصَاصُ على المُتَلَقَّي دون المُلْقِي، سواء عرف الملْقِي الحالَ أو لم يعرفْه، ووجَّه بأن الإلقاء إذا طرأتْ عليه مباشرةٌ مستقلةٌ، صار شرْطاً محْضاً، وكما لا يجب القِصَاصُ على الملْقِي، لا يجب عليه الضمانُ أيضاً، وعن الشيْخِ أبي حامد حكايةُ وجهٍ: أنه يجب عليه الضَّمَان، والظاهر الأول.

الثانية: لو ألقاه في ماءٍ مغْرِقٍ؛ كلجة البحر، فالتقمه الحوتُ، ففيه قولان منصوصٌ وَمُخَرَّجٌ للربيع.

المنصوص، وهو الأصح: أنه يجب عليه القصاصُ على المُلْقِي؛ لأنه ألقاه في مهلكة، وقد هلك بسبب إلقائه، فلا يُنْظَر إلى الجهة التي بها هَلَك، ووجه أيضاً بأن لُجَّة البحر مَعْدِن الحوت، فالإلقاء فيها إلقاءٌ إلى الحوت، فصار كما لو كتَّفه وعَرَضَه للسَّبُع.

وتخريج الربيع أنه لا قِصَاصَ، كما في "مسألة الإلقاء من الشاهق"؛ لأن الهلاك حَصَلَ بغير ما قصد به المُلْقِي الإهلاكَ، وإذا لم يكن بسبب الهلاك متعلَّق قَصْدِه، صار ذلك شبهةً دارئة للقصاص، إلا أنه تلزمه الدية المغلَّظة من حيث إنَّه تسبَّب إلى الإهلاك، وما جرى من الهلاك منسوبٌ إلى إلقائه، والناصرون للنص أجابوا بأنه إذا قَصَد الإهلاكَ، وأتى بالفعل المهلك، لم يكن حصُولُ الهلاك بغَيْر ذلك السبب دافعاً للقِصَاص؛ ألا ترى أنه لو جَرَحَه بسكِّين مسمومٍ، فمات، وتبيَّن أن موته كان بالسُّمِّ، ولم يعْلَم الجارح حالَ السكين، يلزمه القصاص؛ لقَصْده الإهلاك وإتيانه بالجُرْح المهلك، وفرقوا بين مسألة تلقي القادِّ والتقام الحُوتِ؛ بأن الدية لا تجب على المُلْقِي هناك، وقد سلَّم الربيع وجوبَها في "مسألة الحوت"، وذكروا من حيث المعنى وجوهاً:

أحدها: أن الإلقاء من الشاهِقِ، غَيْرُ مهلِكٍ ما لم ينصَدِم المُلْقَى بالأرض، وفعْلُ القَادَّ طَرَأ قبل الانصدام، وإصابة الجناية بدنه وقضية هذا الفَرْقَ أن يقال لو رفع الحوتُ رأسَهُ، والتقمه قَبْل أن يصِلَ إلى الماء، لا يجب القصاص [على الملقي، وأن يخصَّص النَّصَّ بالالتقام بعد الوصول] (١)، وكذلك ذكر بعضُهم، وحكاه أبو الحسن العبَّاديُّ عن القفَّال، لكن في "التهذيب" وغيره: أن الصحيح أنه لا فرْقَ بيْنَ الحالَتَيْنِ.


(١) سقط في: ز.

<<  <  ج: ص:  >  >>