للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثاني: أن الإلْقاء من الشَّاهِق قدْ لا يُهْلِك، فإن الريح ربما رفعت الملْقَى إلى الماء، وعظمته فيصيب الأرض لا بشدَّة ولا صدْمة، فيَسْلَم، فهذا طرأ عليه القَدُّ أبطل أثره، والإلقاء في الماء المُغْرِق مهلِكٌ، لا محالة، فلا ينْظَر إلى ما يَحْدُث بعده، وقد يفْهِمُ هذا الفرق تخصيصَ القولين؛ بما إذا كان الالتقام قبل وصوله إلى الماء، والقطع بوجوب القصاص، إذا كان بعده، وفي إيراد الشيخ أبي حامد وغيرِهِ مِنْ أئمة العراقيين ما يُشْعِرُ به.

والثالث: قال الإِمام: القَدُّ قتل صدَرَ مِنْ فاعلٍ مختارٍ يفعل برأي ورؤْيَةٍ، فيقطع أثر السبب الأول، والحوت يلتقم بطَبْعِهِ، كالسبع الضاري، فجاز أن لا يَقْطَعَ أثرَ السَّبَبِ الأول، ولذلك نقول: لو أمسك إنساناً، حتى قَتَله غَيْرُه، فالقصاص على القاتل دون الممُسِك، ولو أمسكه وهدَّفَه لوثبة صبع ضارٍ، فافترسه، فالقصاص على المُمْسك المُهَدِّف، وهذا لأن الحيوان الضَّارِيَ بطَبعه يفعل فعْله عنْد التمكُّن، فكأنه آلة لصاحب السبب الأول، نازلٌ منزلة ما لو ألقاه في بئر، وكان في عُمْقها نصول منصوبة، فأصابته، ومات، يجب القصاص على المُلْقِي، ولم يمنَع حصولُ الهلاك بها، وإن لم يقْصِد وجوبَ القصاص، بخلاف ما إذا كان الطارئ فعلاً صادراً عَنْ رأْي ومشيئة، فإنه يبعد تنزيله منزلة الآلات، ويُبْنَى على هذا أنه إذا كان في أسفل البئر حية عادية بطبعها، أو نمرٌ ضارٍ، فأهلكه، يجب الضمان على المُرْدِي، ولو كان هناك مجْنونٌ ضار على طباع السباع، فكذلك، وإن لم يكن ضارياً، كان كالعاقل في إسقاط الضمان عن الملقي، ولم يُجْعَل الهلاكُ الحاصلُ بالسبع الضارِي بمثابة التلقِّي بالسيف والقد بنصفين، وأطلق في "التهذيب" نفْيَ الضمان، إذا افترسه سَبْعٌ قبل أن يصيب الأرضَ، ولا فرْقَ في مسألة القَادِّ بين أن يكون القادُّ ممَّن يضمن أو ممَّن لا يضمن، كالحَربيَّ، ولو رفع الحوتُ رأْسه، فألقمه فَاهُ، فعليه القصاص بلا خلاف، ولو ألقاه في ماء غير مُغْرِقٍ، فالتقمة حوتٌ، فلا قصاص؛ لأنه لم يقصد إهلاكه، ولم يشعر بسبب الهلاك (١) الذي حَصَل، فأشبه ما إذا دفَعَ رجلاً دفعاً خفيفاً، وألقاه، فجَرَحَه سكِّينٌ كان هناك، ولم يَشْعُر به الدافع، لا يلزمه القصاص، ولكن يجب الضمان في الصورتَيْن، وتكون الديَةُ الواجبة دية شِبْهِ العمد، كذلك ذكره صاحب "التهذيب" وابن الصباغ وغيرهما، وحكاه القاضي ابن كج (٢) عن الأصحاب واستنكره، وقال: ينبغي أن لا يتعلَّق به ضمان، كما لا يتعلَّق به قصاص.


(١) قضيته تصوير المسألة بما إذا لم يشعر الملقي أن هناك حوتاً، فإن عرفت حضور الحوت لزمه القصاص، وبه صرح الغزالي في الوسيط ووجهه ابن الرفعة.
(٢) وهذا الذي قاله ابن كج استبعده ابن الرفعة؛ لأن التلف حصل بفعله.
ويشهد لابن كج قول الوسيط في كتاب الغصب: لو ألقى صبياً في مهلكة فافترسه سبع لا ضمان فيه لأنه لا يقصد من ذلك ذلك والصبي كالرجل المكتوف ويخرج من كلامهم أيضاً حكاية وجه بوجوب ديّة مخففة، وبه صرح البغوى في تعليقه على المختصر.

<<  <  ج: ص:  >  >>