والأولون جارحون يتعلَّق بفعلهم مقتضاه من قصاص أو ديةٍ مغلَّظة أو مخفَّفة وقد سبق ذكْر ذلك في الطَّرَفِ الرابعِ من الركنِ الأول، وعُدَّ من نظائره أن يصْعَد به على كرسيِّ ويربط في عنقه حبلاً ويشده إلى فوق، فيجيء الآخر فيُنحِّي ما تحْتَ قدميه عنه، فالقاتل الثاني.
والثالث: أن تندمل بعضُ الجراحاتِ، ثم يوجد سائرُ الجراحات، فعلى مَنِ اندملت جراحتُه ما تقتضيه الجراحة، ولا يلزمُه قصاصُ النفسِ والقتل، وهو الجراحة الساريةُ، وإذا جَرَح اثنان على التعاقب، وادَّعى الأولُ الاندمال، وأنكر الوليُّ، فلا قصاص على الأوَّل بقَوْلِ الوليِّ، وإذا عفا عن الثاني، لم يأخذ منه إلا نصْفَ الدية، ولا يُقْبل قولُه عليه، وإنما يأخذ كمالَ الدية، إذا قامت بيَّنَة: على الاندمال.
والرابع: أن يكون امتناعُ القصاصِ على بعْضِهم لكَوْن فعله خطأً، كما إذا جرحه أحدُهما عَمْدَاً، والآخَرُ خطأ، فلا قصاص على واحدٍ منهما، وعلى عاقلة الخاطئ نصف دية الخطَأ، وفي مال العامِدِ نصْفُ دية العَمْد، إن كانتْ جراحتُه لا توجِب قصاصاً، أو آل الأمر إلى الدية، وعليه قصاصُ الطَّرَفِ، إن كانَ قَدْ قطعَ طَرَفاً، وكذا لو جرح أحدَهُما عمْداً، والآخر شبه عمْدٍ، لا قصاص على واحدٍ منهما، ويجب نصف دية شبه العمد على عاقلة صاحِبِهِ وقال مالك: يجب القصاصُ عَلَى شريكِ الخاطئِ وشريك الجارح شبْه العَمْد، وبه قال أحمد في رواياته واختاره المزنيُّ ويجوز أن يُعْلَم قوله:"ولا قصاص على شريك الخاطئ" مع الميم والألف والزاي بالواو؛ لأن القاضي أبا المحاسِنِ الرويانيُّ ذكر في "جمع الجوامع" مع أنه قد قيل: إنه قول للشافعيِّ -رضي الله عنه- وذكره المزني في "العقارب"، وهذا لم ينقلْه الإمامُ، ولكن تمناه فقال: وَدِدتُّ أن يكون هذا قولاً معدوداً في المذْهَب، وقد يوجَّه ذلك بأن العامد لو انفرد بقتله، قُتِلَ فإذا شارك غيره، قُتِلَ، كالأجنبي، إذا شارك الأب، واحتج لظاهر المذْهب بأنَّ الزهوقَ حَصَل بجراحَتَيْن عمْد وخطأ، فلا يجب القصاص، كما لو جرحه واحدٌ جراحَتيْنِ إحداهما عمْدٌ والأخرَى خطأٌ.
الخامسُ: أن يكون امتناعُ القصاصِ على بعْضِهم لمعنًى في نفسه، فله حالتان:
إحداهما: أن يكون فعْل مَنْ لا قصاصَ عليه مضموناً، كما إذا شارك الأبُ أجنبيّاً في قَتْل الابن، فعلى الأبِ نصْفُ الدية المغلَّظة، وعلى الأجنبيَّ القصاصُ، وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: لا قصاصَ علَيْه.
لنا: أنه لو انفرد بقَتْله، وجَبَ عليه القصاص، فإذا شارَكَ مَنْ لا يقتص منْه لا لمعنى في فعله، وجب أيضاً كما لو كانا عامِدْينِ، فعفا الوليُّ عن أحدهما، وأيضاً، فإن الزهُوق حصَلَ بجنايتَيْن عمْدَيْن مضمونَيْنِ، فامتناعُ وجوب القِصاص عَلَى أحدهما، لا يمنع الوجوب على الآخَرِ، كما لو رَمَى اثنانِ سهْماً إلَى واحدٍ، ومات أحَدُ الراميَينِ قبل