وأصحُّهما: الوجوب؛ لأنه ما بذَلَها مجاناً وإنما قصد إيقاعها عوضاً، فهذا لم يقَعْ عوضاً، وجَب بدَلُها، كما لو باع سلعةً بيعاً فاسداً، وسلَّمها إلى المشترِي، وتَلِفَتْ أو دَفَع المُسلَّم إليه الشعيرَ بَدلاً عن الحنْطة، وتَلِف عنْد المُسلّم، يجب ضمان التالف، وأما قصاص اليمين، فإنه يبقى بحالِهِ ويجيْء فيه الخلافُ السابقُ.
الحالة الثانية: إذا قال: دهشتُ، فأخرجتُ اليسار، وظَنِّي أني أُخرج اليمين، فيُسْأَل المقتص عن قصده في قطْع اليسار ونفرض جوابَه من وجوه:
أحدها: أن يقول: ظننتُ أن المخرِجَ قصَد الأباحة، فقياسُ مثله في الحالة الثانية؛ أَلاَّ يجب القصاصُ في اليسار والذي قاله في "التهذيب": أنه يجب كمن قتل إنساناً، وقال: ظننتُ أنه أذِنَ لي في القتل، وهذا يوافق الاحتمالَ المذكور هناك، وهو المتَوجِّه في الموضعَيْن.
وثانيها: أن يقول: علمتُ أن المُخرَجَ اليسارُ، وأن اليسار لا تجزئُ عن اليمين، فقد نقل العراقيون فيه الوجهين المذكورين في مثْله من الحالة الثانية، وَجْه ابن الوكيل، ووجه سائر الأصحاب، واقتصر الإمامُ وصاحب "التهذيب" وغيرهما على الحُكْم بوجوب القصاص، وسبب ترجيح الوجوبِ هاهنا؛ أنَّه لم يوجدُ من المُخْرِج بذلٌ وتسليطٌ.
وثالثها: أن يقول: ظننتُ أن اليسار تجزئُ عن اليمين، قال الإِمام: الذي رأيتُه في الكتب: أنه لا يجبُ القصاصُ، وينهض ظنُّه عذراً ويحتمل أنه يجب، ولا يبالَى بهذا الحُسْبَان، كما إذا قتل مَنْ أمسك أباه، حتى قُتِل، وقال: ظننتُ أن القصاص يجبُ على المُمْسك، فإن الرأْي الظاهرَ أن القصاصَ لا يندفع بمثْل ذلك.
ورابُعها: أن يقول: ظننتُ أن المُخْرَجَ يمينٌ، فلا قصاص في اليسار؛ لأن هذا الاشتباه قريبٌ وفيه الوجه المذكور في مثله من الحالة الثانية، وحكى الإمامُ هاهنا أنَّه على الخلافِ المذكورِ فيما إذا قتل إنساناً، وقال: ظننته قاتلَ أبِي، وفي جميع هذه الصُّوَر يبقى القصاصُ في اليمين، إلاَّ إذا قال: ظننت أن اليسار تجزئُ عن اليمين، فيه الخلاف السابق، والظاهرُ سقوطُه، وإذا سقَطَ القصاص من الطرفين فلكلِّ واحدٍ منهما الديةُ على الآخر، ولو قال القاطع: دُهِشْتُ، فلم أدر ما صنعْتُ، قال الإِمام: لا يُقْبَل منه وُيلْزَمه القصاصَ في اليسار؛ لأن الدهشة [السالبة] للاختيار لا تليق بحالة القاطِع، وفي كُتُب الأصحاب لا سيَمَا العراقيين: أن المُخرَج لو قال: لم أسمَعْ من المقتص: أَخْرِجْ يمينك، وإنما وقَع في مَسْمَعِي؛ أخْرِجْ يسارَك، فأخرجتها، فالحُكْم فيه كالحُكْمُ فيما لو قال: دُهِشْتُ، فأخرجت اليسار، وأنا أظن أني أُخْرِج اليمين، لكن قضية ما مرَّ أن الفعْل المطابِقَ للسؤال نازلٌ منزلةَ الإذن لفظاً أن نُلْحق ذلك بصورة الإباحة.