واختلفوا فيما عدا ذلك، فذهب الإِمام مالك، وأَحْمَدُ في رواية عنه إلى أنه يحرم الاستعانة بالكفار في الجهاد وبهذا قال ابن المنذر، والجوْزَجَانِي، وجماعة من أهل العلم وذهب الإِمام أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد في رواية أخرى إلى جواز الاستعانة بهم. وشرط الشَّافعي مع أمن خيانتهم كونهم بحيث لو انضم المستعان به إلى العدو قاومناهم. "الأدلّة" استدل المانعون بما يأتي: أولاً- ما رواه أحمد ومسلم عن عائشة قالت: خَرَجَ النبي -صلى الله عليه وسلم- قِبَلَ بدْرٍ فَلمَّا كَانَ بِحَرَّة الْوَبَرَةِ أدْرَكَهُ رَجُلٌ كَانَت تُذْكَرُ منْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ فَفَرِحَ بِهِ أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حِيْنَ رَأوْهُ، فَلَمَّا أدْرَكَهُ قَالَ: جِئْتُكَ لَأَتَّبِعَكَ فَأُصِيْبُ مَعَكَ قَالَ له رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-: "تُؤْمِنُ باللهِ وَرَسُوْلَه؟ قَالَ لاَ، قَالَ: ارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِيْنَ بِمُشْرِكٍ" قَالَتْ: ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا كَانَ بالشَّجَرَةِ أدْرَكَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أوَّلَ مَرَّةٍ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- كَمَا قَالَ أَوَّلَ مرَّةٍ فَقَالَ: لاَ، قَالَ فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِيْنَ بِمُشْرِكٍ قَالَتْ: فَرَجَعَ فَأَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ: تُؤْمِنُ بِاللهِ وَرَسُولِه؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ فَانْطَلِقْ. ثانيًا- ما رواه الإِمام أحمد عن خبيب بن عبد الرحمن عن أبيه عن جَدّه قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يُرِيدُ غَزْواً أَنَا وَرَجُل مِنْ قَوْمِي وَلَم نُسْلِمْ فَقلْنَا إِنَا نَسْتَحْي أَنْ يَشْهَدَ قَوْمُنَا مَشْهَداً لاَ نَشْهَدُهُ مَعَهُمْ، فَقَالَ أسْلَمْتُمَا؟ فَقلْنَا لاَ، فَقَالَ: "إِنَّا لاَ نَسْتَعِيْنُ بِالمُشْرِكِيْنَ عَلَى الْمُشْرِكِيْنَ فأَسْلَمْنَا وَشَهِدْنَا مَعَهُ". ففي هذين الحديثين نفي صريح للاستعانة بعموم المشركين، لأن لفظ مشرك نكرة في سياق النفي ولفظ المشركين في الحديث الثاني جمع معرف بأداة الاستغراق فيفيد العموم، ولم يقبل منهم النبي -صلى الله عليه وسلم- الاستعانة في القتال مع شدة رغبتهم فيه حتى أسلموا. ثالثاً- إن الكافر لا يؤمن مكره وغدره لخبث طويته، والحرب تقتضي المناصحة، والكافر ليس من أهلها. وقد نوقش الدليلان الأوّلان: بأنهما لا يَدُلاَّنِ على عدم جواز الاستعانة بالمشركين، وإنما كان ردّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- لمن ردّ؛ لأنه تفرس فيهم الرغبة في الإسلام فردهم رجاء أن يسلموا، وقد صدّق الله ظنه. وقد ردّت هذه المناقشة بأن الحديثين عامّان في المنع من الاستعانة بمن طلب الإعانة وغيره. "أدلة المجيزين" استدل المجيزون بما يأتي: أولاً- ما رواه الإِمام الشَّافعي، وأبو يوسف عن الحسن بن عمارة عَنْ الحكم بن مُقْسمٍ عن ابنِ عباس قَالَ: اسْتَعَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِيَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ فَرَضَخَ لَهُمْ وَلَمْ يُسْهمْ. ثانياً- ما رواه أبو داود في مراسيله عن الزهري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استعان بناس من اليهود في خيبر في حربه فأسهم لهم. ثالثاً- ما وراه أحمد وأبو داود عن ذي مخبر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "سَتُصَالِحُونَ الرُّوْمَ صُلْحاً تغْزُونَ أَنتُمْ وَهُمْ عَدُوّاً مِنْ وَرَائِكُمْ" فأخبر عليه الصلاة والسلام بأن المسلمين سيحصل منهم التعاون مع الروم وإخباره -صلى الله عليه وسلم- صدق لا شك فيه، ولم يذكر ما يدل على أنه ممنوع: =