ومما تقدم يعلم أن مذهب الحنفية يلتقي مع المذاهب الأخرى في الجواز حيث دعت الحاجة، وعدمه إذا لم تدع الحاجة. فلم يبق ما يصح أن يكون محلاً للخلاف سوى أنه مكروه أو حرام عند عدم الحاجة إليه، والخلاف في ذلك سهل لا يمنع الاتفاق على أصل الحظر أو الإباحة. بقي علينا بعدما تقدم النظر إلى ما يستعمله العدو من الآلات فنستعمل معه مثل ما يستعمل جرياً على قاعدة {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}. وقد علمنا من أصول الشريعة العامة أنها لا تسمح بعمل من شأنه أن يؤدي إلى هزيمة المسلمين، كما أنها لا تبيح من المحظورات باعتبار أصلها إلاّ ما دعت إليه الحاجة. وبذلك نستطيع أن نقول: إذا رأى المسلمون أن اتقاء الهزيمة ومغلوبية الأعداء متوقف على استعمال ما ذكر فإن الشرع يبيح لنا ذلك بل يوجبه إذا اشتدت الحاجة إليه. وبهذا يمكن التوفيق بين هذه الآراء المختلفة وتصير المسألة إجماعية لا خلاف فيها، وهكذا شأن المسائل التي يناط الحكم فيها بتقدير أولي الأمر وأصحاب البصيرة. وقد صح الأمر بالتحريق في بعض المواضع، والنهي عنه في بعضها والقريب في ذلك أنه مبني على تقدير حالة العدو والعمل بما يناسبها. (١) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو، دون ذكر الشهر، ولمسلم عن أنس: أن المدة كانت أربعين ليلة، وروى أبو داود في المراسيل عن ثور عن مكحول: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نصب على أهل الطائف المنجنيق، ورواه الترمذي فلم يذكر مكحولاً، ذكره معضلاً عن ثور، وروى أبو داود من مرسل يحيى بن أبي كثير قال: حاصرهم رسول الله شهراً، قال الأوزاعي: فقلت ليحيى: أبلغك أنه رماهم بالمجانيق؟ فأنكر ذلك، وقال: ما نعرف ما هذا، وروى أبو داود في السنن من طريقين أنه حاصرهم بضع عشر ليلة، قال السهيلي: ذكره الواقدي كما ذكره مكحول، وزعم أن الذي أشار به سلمان الفارسي، وروى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن سنان: أنه -صلى الله عليه وسلم- حاصر أهل الطائف خمسة وعشرين يوماً، وفي حديث عبد الرحمن بن عوف شيئاً من ذلك قاله الحافظ. (٢) قال الشيخ البلقينىِ: إلا في مكة المشرفة، فإنه لو تحصن بها أو بموضع من حرمها طائفة من الكفار الحربيين لم يجز قتالهم بما يعم كالمنجنيق وغيره ولا يبيت الحرب عليها كغيرها، نص على هذا الأخير الشَّافعي -رضي الله عنه-. وقال في الخادم: شمل إطلاقه ما لو تحصنوا بمكة، وقال القفال في شرح التلخيص: لا يجوز القتال بمكة حتى لو تحصن والعياذ بالله جماعة من الكفار فيها, لم يجز لنا قتالهم فيها أي بل نضيق عليهم حتى يخرجوا وغلطه النووي في باب الحج من شرح المهذب. ونقل عن نص الشَّافعي في الأم جواز قتال البغاة بالحرم وأجاب عن =