للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الرَّافِعِيُّ: فيه مَسَائِلُ:

إحداها: الأسِيرُ في يد الكُفَّارِ إن أَمَّنَ بَعْضُهُم مُكْرَهاَ لمْ يَصِحَّ الأَمَانُ، وإنْ كان غير مُكْرَه، فوجهان:

أحدهما: يصحُّ؛ لأنَّهُ مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ مختارٌ أَمَّنَ أمانًا ليس فيهِ إِضْرَارٌ.

وأصحُهما: المَنْعُ، وبه قال أبو حُنَيفَة؛ لأنَّه مَقْهُورٌ في أيديهم، لا يَعْرِفُ وَجْهَ النَّظَرِ في المَصْلَحَةِ، ولأن الأمان يقتضي أنْ يَكُونَ المؤَمَّنُ آمِناً، والأَسِيرُ في أيديهم ليس بِآمِن. ورأى الإمَام تَخْصِيصَ الوَجْهَيْنِ، بما إذا أمن غير من أَسَرَهُ والقَطْعُ بِالمَنْعِ إذا أمَّنَ من أَسَرَهُ؛ لأنَّهُ كالمُكْرَهِ من جِهَتِهِ، وعلى هذا جَرَى صَاحِبُ الكِتَابِ.

فإنْ قُلْنَا: لا يَصِحُّ أَمَانُهُ، فهل يَصِحُّ، وَيلْزَم حُكْمُهُ في حَقِّهِ؟

فيه وَجْهان:

أَحَدُهُمَا: نَعم، كَمَا لو دَخَلَ دَارَهُمْ تَاجِرًا أو مُسْتَأْمَناً، لا يجوز له اغْتِيَالُهُمْ.

الثاني: لا؛ لأنهم لم يُؤَمِّنُوهُ بالتَّخْلِيَةِ، والتاجرُ والمستأمنُ كِلاَهُمَا آمِنٌ منهم فعليه أن يؤَمِّنَهُمْ من جهته، وبالأوَّلِ أَجَابَ (١) في الكِتَابِ وكلام [أكثرهم] (٢) منهم القَفَّالُ إلى الثاني أَمْيَلُ. وكان إِيرَادُ هذه المَسْأَلَةِ في جملةِ مَنْ يَعْقِدُ الأَمَانَ أَحْسَنَ، وكذلكَ فعل في "الوَسِيطِ".

الثانية: إنْ كانَ المُسْلِمُ ضَعِيفاً في دَارِ الكُفْر، لا يَقْدِرُ على إِظْهَارِ الدين، فيحرمُ عليه الإِقَامَةُ هناك، ويَجِبُ عليه الهِجْرَةُ، لما رُوِي أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ أنا بريء مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ (٣) وإنْ لمْ يَقْدِرْ عَلَى الهِجْرَةِ، فهُوَ مَعْذُورٌ إلى أنْ يَقْدِرَ، فإنْ فتح البلد قبل أن يهاجر سَقَطَتِ الهِجْرَة عنه، وإنْ كَانَ يَقْدِرُ على إِظْهَارِ الدين لكونهِ مُطَاعًا في قَوْمِهِ؛ ولأنَّ له هناك عَشِيرَةٌ يَحْمُونَهُ، ولم يَخَفِ الفِتْنَةَ في دِينِهِ، لمْ تَجِبْ عليه الهِجْرَةُ، لكنَّها تُسْتَحَبُّ، لئلاَ يَكْثُرَ سَوَادهم، ولأنَّهُ لا يؤمن أن يميل قَلْبُهُ إليهمْ، أو يَكِيدُوا له كيدًا، وفي "النهاية" ذِكْرُ وَجْهٍ أنه يَحْرُمُ عليه الإقَامَةُ عندهم [لإطلاق الخَبَر؛ ولأن المُسْلمَ بين أَظْهُرِ الكُفَّارِ مَقْهُورٌ مُهَانٌ، وإن كَفُّوا لِعَارِضٍ، لم يُؤْمَنْ عَوْدُهُمْ] (٤) إليه، والمشهورُ الأول.

إذا تَقَرَّرَ ذلك، فالأَسِيرُ المَقْهُورُ متى قَدَرَ على الهَرَبِ يَلْزَمُهُ الهَرَبُ، ولو أطلقوا


(١) في أ: أجاز ..
(٢) سقط في ز.
(٣) أخرجه أبو داود [٢٦٤٥] والترمذي [١٦٠٤] وابن ماجة من حديث جرير، وفيه قصة، وصحح البخاري وأبو حاتم رواه النسائي [٨/ ٣٥ - ٣٦] وأبو داود، والترمذي والدارقطني إرساله إلى قيس ابن أبي حازم، ورواه الطبراني بلفظ المصنف موصولاً.
(٤) سقط في ز.

<<  <  ج: ص:  >  >>