قَالَ الرَّافِعِيُّ: صورة الفرْع أن يمنع نفْسه مِن فعل أو يحثها عليه بتعليق التزام قربة بالفعل أو الترك، وهذا التصوير قد يُقالُ له: يمين الغضَب واللَّجَاج، ويُجْعل قسيمًا لسائر الأيمان، بصيغته المشهورة، وكذلك جعل صاحبُ الكتابِ الباب في "الوَسيط" فصْلين:
أحدهما: في صيغ الإيمانِ الصرائحِ منْها والكنايات.
والثاني: في يمين الغَضَب واللَّجَاج، وهو ما رسمه فرعًا هاهنا، وقد يُقال له: نذر الغَضَب واللَّجَاج، ويُجعل قسيمًا لنذر التبررة وهو التزام القربة، إما ابتداءً أو معلَّقًا بنعمة يبغيها أو بزوال نقمة يرجو كشْفَها, وله الكتاب المفردُ التالِي لـ"كِتَابِ الأيمان"، وربما سُمِّيَ يمين الغلق ونذر الغلق، إذا عرفت ذلك، فهذا قال: إن كلمتُ فلاناً أو أكلتُ كذا أو دخلت الدار أو إن لم أخرج من البلد، فلله عليَّ صوم شهر أو صلاةٌ أو حجٌ، أو إعتاق رقبة ثم إنَّه كَلَّمه أو أكل أو دخل، أو خرج، فقد رُوِيَ فيما يلزمه ثلاثةُ أقوال:
أحدها: أنه يلزمه الوفاء بما التزم؛ لأنه التزم عبادة في مقابلة شرط، فتلزمه عند وجود الشرط، كما لو قال: إن شَفَى اللهُ مَرِيضِي، أو رزقَنِي ولداً، فلله عليَّ كذا.
والثاني: أن عليه كفارةَ يمينٍ؛ لما رُوِيَ عن عقبة بنِ عامر -رضي الله عنه- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال:"كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيمِين"(١) وعن عائشة -رضي الله عنها- أنَّها سُئِلَتْ عمن جعل ماله في رتاج الكَعْبَة، إنَّ كَلَّمَ ذَا قَرَابَةِ لَهُ، فَقَالَتْ "يكَفِّرُ مَا يُكَفِّرُ اليَمِينَ" والمعنى فيه أن المقصود إذا قال: إنْ كلَّمتُ فلانًا، فعلَّي كذا، منع النفس منه، ومن قوله: إن لم أخرج من البلد، حمل النفس على الخروج، فكأن كاليمين في غرض المنع والحَمْلِ، فيكون موجبه موجب اليمين.
والثالث: وبه قال أحمد -رحمه الله-: إنه يتخيَّر بين الوفاء بما التزم وبين أن يُكفِّر كفارةً يمينٍ؛ لأنه يشبه النذْر من حيْثُ إنَّهُ التزم قربةً، واليمينُ من حيث إنَّ مقصودَه مقصودِ اليمين، فلا سبيل إلى الجَمْع بين موجبيهما, ولا إلى تعطيلهما، فوجب التخيير، هذا هو الطريق المعتد، والأقوال معزيَّةٌ إلى نصوص الشَّافعيِّ -رضي الله عنه- في مواضعَ وصور مختلفة، ويُقال: إن قول التخيير مخرَّجٌ غيرُ منصوص، ثم إيراد العراقيين من الأصحاب يقتضي أن يكونَ المذهبُ التخييرَ، لكن الأصحَّ على ما ذكر صاحبُ "التَهْذيب" وإبراهيمُ المروزي والموفَّق بن طاهر وغيرهم -رحمهم الله-: وجوبُ الكفارة، ووراء ذلك طُرُقٌ:
أحدها: القطعُ بالتخيير.
والثاني: عن العبَّادي: نفي التخيير، والاقتصار على القولَيْن الأَوَّلَيْن.