ووجه الدلالة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أَخَّرَ الجواب عن السائل، حتى علم ما عليه تلك الرقبة من الإِيمان أو الكفر، فلما تأكد له إيمانها أجابه -صلى الله عليه وسلم- بأن يعتقها، وقال له: "فَإنَّهَا مُؤمِنَةٌ"، فلو لم يكن وصف الإِيمان له دخل في إجزاء العتق، لما كان لهذا التأخير فائدة، ومثل ذلك يجلُّ عنه مقام الرسول -صلى الله عليه وسلم-. وأيضاً فإنه عليه الصلاة والسلام علَّق عتقها على الإِيمان، وتعليق ذلك يدل على أن الإِيمان علَّة الإِجزاء؛ لأن تعلُّق الحكم بالمشتق مؤذن بأن مبدأ الاشتقاق علة فيه. وقالوا: إن الرقبة في الآية، وان كانت مطلقة غير مقيدة بوصف الإِيمان إلا أن هذا الحديث يصلح أن يكون مقيداً لها، فيكون المقصود من الرقبة فيها: هي الرقبة المؤمنة أو يقال: إن كفارة اليمين قد اتحد الحكم فيها مع كفارة القتل، ففي كل وجب عتق رقبة، واختلف سببهما إذ كفارة اليمين سببها اليمين، وكفارة القتل سببها القتل، والمطلق والمقيد متى اتحد حكمهما حمل المطلق على المقيد، وان اختلف سببهما متى وجدت علَّة جامعة بينهما، فتكون الرقبة في كفارة اليمين، مَحْمُولَةً على الرقبة في كفارة القتل، فتقيد بالإِيمان، كما قيدت به في كفارة القتل؛ لأن العلة التي تجمعهما: هي حرمة السبب. واحتج الإِمام أبو حنيفة، ومن معه بان الآية غير مقيدة، فهي شاملة للرقبة المؤمنة، وللرقبة الكافرة، والمطلق يجب بقاؤه على إطلاقه، حتى يرد من الشرع ما يقيده، ولم يرد ما يقيد الرقبة بالإِيمان هَاهُنَا، فكانت باقية على إطلاقها، فعتق الكافرة مجزئ كعتق المسلمة، وليس حمل المَطلق على المقيد عند اتحاد الحكم مع اختلاف السبب أمراً متفقاً عليه، بل نحن لا نقول به. وبالنظر في وجهة كل نجد أن مذهب الجمهور هو الراجح؛ لأن الحديث المتقدم مقيد للآية، فلم تبق على إطلاقها؛ ولأن الكفَّارة عبادة يُتقرب بها إِلى الله عَزَّ وَجَلَّ، فوجب أن تكون خاصة بأهل عبادته من المؤمنين كمال الزكاة، وذبائح النُّسُكِ. نعم، إن الإِسلام دين الرحمة العامة، والصدقة فيه، حتى على الكفار غير المحاربين مستحبة، ولكن فرقاً بين الصدقة المطلقة، وبين العبادات المحددة المقيدة، فتكفير الذين إنما تُرْجَى بما في العتق من إعانة العتيق على طاعته تعالى، حتى من قال بِإجْزَاءِ الكافِرَة لا يمكنه أن ينكر أن الاحتياط في إِبراء الذمة إِنما هو بإعتاق الرقبة المؤمنة، فتقديم "المجمع عليه المتيقن إجزاؤه أولى بالاعتبار من الظنون المختلف فيه. ذهب جمهور الفقهاء، ومنهم الأئمة الأربعة إِلى اشتراط ذلك، وعدم إجزاء الرقبة المعيبة عيباً يضر بالعمل، والكسب ضرراً بيناً؛ لأن المقصود من عتق الرقبة تمليك العبد منافعه، وتمكينه من التصرف لنفسه في الحياة، وجعله غير عالة على غيره، وهذا إنما يتحقق في الرقبة السليمة دون المعيبة، إذ عتقها يوجب أن تكون عالة على المجتمع بعد أن كانت عالة على الفرد، ولا يصلح أن يكون ذلك مقصودًا للشارع. وذهبت الظاهرية إلى إجزاء ذلك؛ لأن شرط السلامة من العيوب غير معتبر عندهم. =