للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يضع رجُلٌ فمه على أذنه، ويد الأعمى علَى رأسه يتيقن أنه يسمع منه، فيقرَّ بطلاقٍ، أو إعتاقٍ، أو لرجُلٍ معروفِ النَّسب والاسم بمال، وتعلَّق به الأعمى، ولا يزال يضبطه حتى يَشْهَد بما سمع منْه عنْد القاضي، وأصحُّ الوجهين قبولُ الشهادة منه، والحالةُ هذه، لحصول العلم والثاني اطرادُ المنع؛ لأن التصوير المذكور فيه عسْرٌ وتدقيقٌ، واللائقُ حسُمُ الباب كما أنَّا لا نقبَلُ شهادةَ الفاسِق علَى الإِطْلاَق، وإن كان يغْلِبُ على ظَنِّنا صدْقُه، وأما روايةُ الأعمى، ففيها وجهان:

أحدهما: المنْعُ؛ لأنه قد يُلْبَس عليه وقتُ السماع.

والثاني: انَّها مقبولةٌ، إذا حصل الظنُّ الغالب، واحْتُجَّ له بأن عائشة وسائر أمهات المؤمنين -رضي الله عنهنَّ- كنَّ يرْوِينَ من وراء السِّتر، ثم يروى السامعُونَ منْهنَّ، ومعلوم أن البُصَراء، والحالةُ هذه، كالعميان، والأول أظهر عند الإِمام، وبالثاني أجاب الجُمْهور، وقالوا: يُحْتَمَلُ في الرواية ما لا يُحْتَمَلُ في الشَّهادة على ما تقدَّم.

وهذا الخلاف فيما سُمِعَ بعد العَمَى، أما ما سمعه قبل العمَى، فله أن يرويه بلا خلافٍ، ولو تحمَّل شهادةً تحتاج إلى البَصَر، وهو بصيرٌ، ثم عَمِيَ، فَيُنْظَرُ، إن تحمَّل على رجل معروفِ الاسم والنسب، يقر لرجُلٍ بهذه الصفة، فله أن يشهد بعدما عَمِيَ؛ لحُصُولِ العِلْم بالمشْهُود عليه، وَبالمَشْهُود له، وكذا لو عَمِيَ، ويد المقر في يده، فشَهِد لِمَعْروف الاسمِ والنسبِ، وإن لم يكن كذلك، لم تُقْبَلْ شهادته، لانَّه لا يمكنه تعيينُ المشْهود عليه، أو الإِشاَرة إلى المَشْهود له.

وفي المتَرْجِمِ الأعمى وجهان عن صاحب "التقريب":

أصحُّهما: أنه يجوز الاعتمادُ علَى قوله، وقد ذكرنا المسألة من قَبْل.

ولو عمي القاضِي بعد سماع البينة وتعْدِيلها، فهل يَنْفذ قضاؤُه في تلْك الواقعة؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا؛ لانعزاله بالعَمَى كما لو انعزَلَ بسببٍ آخَرَ.

وأشبههما: وبه أجاب القاضي الحُسَيْن: أنه ينفذ، إنْ لم يحتج إلى الإِشارة، كما لو تحمَّل، وهو بصير، ثم عمي، وأما شهادة الأعمَى فيما يثبت بالتسامع، فنذكرها في فصْل التسامح.

وقوله في الكتاب "ولا تُقْبَلُ شهادةُ الأعمَى في الأقوال" معلمٌ بالميم والألف، ويجوز أن يُعْلَمَ بالواو؛ لوجْهٍ ضعيفٍ حكيناه في "أدب القضاء" أن العمَى لا يَقْدَح في القضاء، وذلك الوجْهُ على ضعّفه يطَّرد في الشهادة.

وليس قوله: "في الأقوال" للتخصيص، بل كما لا تُقْبَلُ شهادته في الأقوال، لا

<<  <  ج: ص:  >  >>