للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صَفَرٍ، فَأَتَاهُ عِلْجٌ فَدَلَّهُ عَلَى مَخَاضَةٍ تُخَاضُ إِلَى صُلْبِ الْفُرْسِ، فَأَبَى وَتَرَدَّدَ عَنْ ذَلِكَ، وَقَحَمَهُمُ الْمَدُّ، وَكَانَتِ السَّنَةُ كَثِيرَةَ الْمُدُودِ، وَدِجْلَةُ تَقْذِفُ بِالزَّبَدِ، فَأَتَاهُ عِلْجٌ فَقَالَ: مَا يُقِيمُكَ؟ لَا يَأْتِي عَلَيْكَ ثَلَاثَةٌ حَتَّى يَذْهَبَ يَزْدَجِرْدُ بِكُلِّ شَيْءٍ فِي الْمَدَائِنِ. فَهَيَّجَهُ ذَلِكَ عَلَى الْعُبُورِ، وَرَأَوْا رُؤْيَا: أَنَّ خُيُولَ الْمُسْلِمِينَ اقْتَحَمَتْ دِجْلَةَ فَعَبَرَتْ، فَعَزَمَ سَعْدٌ لِتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا، فَجَمَعَ النَّاسَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ عَدُوَّكُمْ قَدِ اعْتَصَمَ مِنْكُمْ بِهَذَا الْبَحْرِ، فَلَا تَخْلُصُونَ إِلَيْهِ مَعَهُ وَيَخْلُصُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا شَاءُوا فِي سُفُنِهِمْ فَيُنَاوِشُونَكُمْ، وَلَيْسَ وَرَاءَكُمْ شَيْءٌ تَخَافُونَ أَنْ تُؤْتَوْا مِنْهُ، قَدْ كَفَاكُمْ أَهْلُ الْأَيَّامِ وَعَطَّلُوا ثُغُورَهُمْ، وَقَدْ رَأَيْتُ مِنَ الرَّأْيِ أَنْ تُجَاهِدُوا الْعَدُوَّ قَبْلَ أَنْ تَحْصُدَكُمُ الدُّنْيَا، أَلَا إِنِّي قَدْ عَزَمْتُ عَلَى قَطْعِ هَذَا الْبَحْرِ إِلَيْهِمْ.

فَقَالُوا جَمِيعًا: عَزَمَ اللَّهُ لَنَا وَلَكَ عَلَى الرُّشْدِ فَافْعَلْ. فَنَدَبَ النَّاسَ إِلَى الْعُبُورِ وَقَالَ: مَنْ يَبْدَأُ وَيَحْمِي لَنَا الْفِرَاضَ حَتَّى تَتَلَاحَقَ بِهِ النَّاسُ لِكَيْلَا يَمْنَعُوهُمْ مِنَ الْعُبُورِ؟ فَانْتُدِبَ لَهُ عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو ذُو الْبَأْسِ، فِي سِتِّمِائَةٍ مِنْ أَهْلِ النَّجَدَاتِ، فَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَاصِمًا، فَتَقَدَّمَهُمْ عَاصِمٌ فِي سِتِّينَ فَارِسًا، وَجَعَلَهُمْ عَلَى خَيْلٍ ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ لِيَكُونَ أَسْلَسَ لِسِبَاحَةِ الْخَيْلِ، ثُمَّ اقْتَحَمُوا دِجْلَةَ. فَلَمَّا رَآهُمُ الْأَعَاجِمُ وَمَا صَنَعُوا أَخْرَجُوا لِلْخَيْلِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ مِثْلَهَا فَاقْتَحَمُوا عَلَيْهِمْ دِجْلَةَ، فَلَقُوا عَاصِمًا وَقَدْ دَنَا مِنَ الْفِرَاضِ. فَقَالَ عَاصِمٌ: الرِّمَاحَ الرِّمَاحَ! أَشْرِعُوهَا وَتَوَخُّوا الْعُيُونَ. فَالْتَقَوْا فَاطَّعَنُوا، وَتَوَخَّى الْمُسْلِمُونَ عُيُونَهُمْ فَوَلَّوْا، وَلَحِقَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَقَتَلُوا أَكْثَرَهُمْ، وَمَنْ نَجَا مِنْهُمْ صَارَ أَعْوَرَ مِنَ الطَّعْنِ، وَتَلَاحَقَ السِّتُّمِائَةِ بِالسِّتِّينَ غَيْرَ مُتْعَبِينَ.

وَلَمَّا رَأَى سَعْدٌ عَاصِمًا عَلَى الْفِرَاضِ قَدْ مَنَعَهَا، أَذِنَ لِلنَّاسِ فِي الِاقْتِحَامِ وَقَالَ: قُولُوا نَسْتَعِينُ بِاللَّهِ وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَاللَّهِ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ وَلِيَّهُ وَلَيُظْهِرَنَّ دِينَهُ وَلَيَهْزِمَنَّ عَدُوَّهُ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ! . وَتَلَاحَقَ النَّاسُ فِي دِجْلَةَ وَإِنَّهُمْ يَتَحَدَّثُونَ كَمَا يَتَحَدَّثُونَ فِي الْبَرِّ، وَطَبَّقُوا دِجْلَةَ حَتَّى مَا يُرَى مِنَ الشَّاطِئِ شَيْءٌ. وَكَانَ الَّذِي يُسَايِرُ سَعْدًا سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ، فَعَامَتْ بِهِمْ خُيُولُهُمْ، وَسَعْدٌ يَقُولُ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَاللَّهِ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ وَلِيَّهُ، وَلَيُظْهِرَنَّ دِينَهُ وَلَيَهْزِمَنَّ عَدُوَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْجَيْشِ

<<  <  ج: ص:  >  >>