وَهُوَ الْفِجَارُ الْأَوَّلُ، فَكَانَ قَيْسُ بْنُ الْخَطِيمِ فِي حَائِطٍ لَهُ، فَانْصَرَفَ فَوَافَقَ قَوْمَهُ قَدْ بَرَزُوا لِلْقِتَالِ، فَعَجَزَ عَنْ أَخْذِ سِلَاحِهِ إِلَّا السَّيْفَ ثُمَّ خَرَجَ مَعَهُمْ، فَعَظُمَ مَقَامُهُ يَوْمَئِذٍ وَأَبْلَى بَلَاءً حَسَنًا وَجُرِحَ جِرَاحَةً شَدِيدَةً، فَمَكَثَ حِينًا يَتَدَاوَى مِنْهَا، وَأُمِرَ أَنْ يَحْتَمِيَ عَنِ الْمَاءِ، فَلِذَلِكَ يَقُولُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ:
رَمَيْنَاكَ أَيَّامَ الْفِجَارِ فَلَمْ تَزَلْ ... حَمِيًّا فَمَنْ يَشْرَبْ فَلَسْتَ بِشَارِبِ
[يَوْمُ مُعَبِّسٍ وَمُضَرِّسٍ]
ثُمَّ الْتَقَوْا عِنْدَ مُعَبِّسٍ وَمُضَرِّسٍ، وَهُمَا جِدَارَانِ، فَكَانَتِ الْخَزْرَجُ وَرَاءَ مُضَرِّسٍ، وَكَانَتِ الْأَوْسُ وَرَاءَ مُعَبِّسٍ، فَأَقَامُوا أَيَّامًا يَقْتَتِلُونَ قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ انْهَزَمَتِ الْأَوْسُ حَتَّى دَخَلَتِ الْبُيُوتَ وَالْآطَامَ، وَكَانَتْ هَزِيمَةً قَبِيحَةً لَمْ يَنْهَزِمُوا مِثْلَهَا. ثُمَّ إِنَّ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَبَنِي أَوْسِ مَنَاةَ مِنَ الْأَوْسِ وَادَعُوا الْخَزْرَجَ، فَامْتَنَعَ مِنَ الْمُوَادَعَةِ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ وَبَنُو ظَفَرٍ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْأَوْسِ وَقَالُوا: لَا نُصَالِحُ حَتَّى نُدْرِكَ ثَأْرَنَا مِنَ الْخَزْرَجِ. فَأَلَحَّتِ الْخَزْرَجُ عَلَيْهِمْ بِالْأَذَى وَالْغَارَةِ حِينَ وَادَعَهُمْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَأَوْسِ مَنَاةَ، فَعَزَمَتِ الْأَوْسُ إِلَّا مَنْ ذَكَرْنَا عَلَى الِانْتِقَالِ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَأَغَارَتْ بَنُو سَلَمَةَ عَلَى مَالٍ لِبَنِي الْأَشْهَلِ يُقَالُ لَهُ الرَّعْلُ، فَقَاتَلُوهُمْ عَلَيْهِ، فَجُرِحَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْأَشْهَلِيُّ جِرَاحَةً شَدِيدَةً، وَاحْتَمَلَهُ بَنُو سَلَمَةَ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ الْخَزْرَجِيِّ، فَأَجَارَهُ وَأَجَارَ الرَّعْلَ مِنَ الْحَرِيقِ وَقَطْعِ الْأَشْجَارِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بُعَاثٍ جَازَاهُ سَعْدٌ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
ثُمَّ سَارَتِ الْأَوْسُ إِلَى مَكَّةَ لِتُحَالِفَ قُرَيْشًا عَلَى الْخَزْرَجِ، وَأَظْهَرُوا أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْعُمْرَةَ. وَكَانَتْ عَادَتُهُمْ أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمُ الْعُمْرَةَ أَوِ الْحَجَّ لَمْ يَعْرِضْ إِلَيْهِ خَصْمُهُ، وَيُعَلِّقُ الْمُعْتَمِرُ عَلَى بَيْتِهِ كَرَانِيفَ النَّخْلِ فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَسَارُوا إِلَى مَكَّةَ فَقَدِمُوهَا وَحَالَفُوا قُرَيْشًا وَأَبُو جَهْلٍ غَائِبٌ. فَلَمَّا قَدِمَ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَقَالَ لِقُرَيْشٍ: أَمَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ الْأَوَّلِ: وَيْلٌ لِلْأَهْلِ مِنَ النَّازِلِ! إِنَّهُمْ لَأَهْلُ عَدَدٍ وَجَلَدٍ، وَلَقَلَّ مَا نَزَلَ قَوْمٌ عَلَى قَوْمٍ إِلَّا أَخْرَجُوهُمْ مِنْ بَلَدِهِمْ وَغَلَبُوهُمْ عَلَيْهِ. قَالُوا: فَمَا الْمَخْرَجُ مِنْ حِلْفِهِمْ؟ قَالَ: أَنَا أَكْفِيكُمُوهُمْ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى جَاءَ الْأَوْسَ فَقَالَ: إِنَّكُمْ حَالَفْتُمْ قَوْمِي وَأَنَا غَائِبٌ، فَجِئْتُ لِأُحَالِفَكُمْ وَأَذْكُرَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِنَا مَا تَكُونُونَ بَعْدَهُ عَلَى رَأْسِ أَمْرِكُمْ. إِنَّا قَوْمٌ تَخْرُجُ إِمَاؤُنَا إِلَى أَسْوَاقِنَا وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ مِنَّا يُدْرِكُ الْأَمَةَ فَيَضْرِبَ عَجِيزَتَهَا، فَإِنْ طَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَفْعَلَ نِسَاؤُكُمْ مِثْلَ مَا تَفْعَلُ نِسَاؤُنَا حَالَفْنَاكُمْ، وَإِنْ كَرِهْتُمْ ذَلِكَ فَرُدُّوا إِلَيْنَا حِلْفَنَا. فَقَالُوا: لَا نُقِرُّ بِهَذَا. وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ بِأَسْرِهَا فِيهِمْ غَيْرَةٌ شَدِيدَةٌ، فَرَدُّوا إِلَيْهِمْ حِلْفَهُمْ وَسَارُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، فَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَفْتَخِرُ بِمَا أَصَابَ قَوْمُهُ مِنَ الْأَوْسِ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute