وَرَأَى رُسْتُمُ مِنَ اللَّيْلِ كَأَنَّ مَلَكًا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، فَأَخَذَ قِسِيَّ أَصْحَابِهِ، فَخَتَمَ عَلَيْهَا، ثُمَّ صَعِدَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَاسْتَيْقَظَ مَهْمُومًا وَاسْتَدْعَى خَاصَّتَهُ، فَقَصَّهَا عَلَيْهِمْ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيَعِظُنَا لَوِ اتَّعَظْنَا. وَلَمَّا رَكِبَ رُسْتُمُ لِيَعْبُرَ كَانَ عَلَيْهِ دِرْعَانِ وَمِغْفَرٌ، وَأَخَذَ سِلَاحَهُ وَوَثَبَ، فَإِذَا هُوَ عَلَى فَرَسِهِ لَمْ يَضَعْ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ، وَقَالَ: غَدًا نَدُقُّهُمْ دَقًّا! فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَقَالَ: وَإِنْ لَمْ يَشَأْ! ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا ضَغَا الثَّعْلَبُ حِينَ مَاتَ الْأَسَدُ - يَعْنِي كِسْرَى - وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ سُنَّةَ الْقُرُودِ!
فَإِنَّمَا قَالَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَوْهِينًا لِلْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْفُرْسِ، وَإِلَّا فَالْمَشْهُورُ عَنْهُ الْخَوْفُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ أَظْهَرَ ذَلِكَ إِلَى مَنْ يَثِقُ بِهِ.
[ذِكْرُ يَوْمِ أَرْمَاثَ]
لَمَّا عَبَرَ الْفُرْسُ الْعَتِيقَ، جَلَسَ رُسْتُمُ عَلَى سَرِيرِهِ وَضُرِبَ عَلَيْهِ طَيَّارَةٌ، وَعَبَّى فِي الْقَلْبِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فِيلًا، عَلَيْهَا صَنَادِيقُ وَرِجَالٌ، وَفِي الْمُجَنِّبَتَيْنِ ثَمَانِيَةً وَسَبْعَةً، وَأَقَامَ الْجَالِينُوسُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رُسْتُمَ رِجَالًا عَلَى كُلِّ دَعْوَةٍ رَجُلًا، أَوَّلُهُمْ عَلَى بَابِ إِيوَانِهِ وَآخِرُهُمْ مَعَ رُسْتُمَ، فَكُلَّمَا فَعَلَ رُسْتُمُ شَيْئًا قَالَ الَّذِي مَعَهُ لِلَّذِي يَلِيهِ: كَانَ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ يَقُولُ الثَّانِي لِلَّذِي يَلِيهِ، وَهَكَذَا إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى يَزْدَجِرْدَ فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ.
وَأَخَذَ الْمُسْلِمُونَ مَصَافَّهُمْ. وَكَانَ بِسَعْدٍ دَمَامِيلُ وَعِرْقُ النَّسَا فَلَا يَسْتَطِيعُ الْجُلُوسَ، إِنَّمَا هُوَ مُكِبٌّ عَلَى وَجْهِهِ، فِي صَدْرِهِ وِسَادَةٌ عَلَى سَطْحِ الْقَصْرِ يُشْرِفُ عَلَى النَّاسِ، وَالصَّفُّ فِي أَصْلِ حَائِطِهِ، لَوْ أَعْرَاهُ الصَّفُّ فَوَاقَ نَاقَةٍ لَأُخِذَ بِرُمَّتِهِ، فَمَا كَرَثَهُ هَوْلُ تِلْكَ الْأَيَّامِ شَجَاعَةً، وَذَكَرَ ذَلِكَ النَّاسُ، وَعَابَهُ بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ فَقَالَ:
نُقَاتِلُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ نَصْرَهُ ... وَسَعْدٌ بِبَابِ الْقَادِسِيَّةِ مُعْصَمُ
فَأُبْنَا وَقَدْ آمَتْ نِسَاءٌ كَثِيرَةٌ ... وَنِسْوَةُ سَعْدٍ لَيْسَ فِيهِنَّ أَيِّمُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute