فَبَلَغَتْ أَبْيَاتُهُ سَعْدًا فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا كَاذِبًا وَقَالَ الَّذِي قَالَهُ رِيَاءً وَسُمْعَةً فَاقْطَعْ عَنِّي لِسَانَهُ! فَإِنَّهُ لَوَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَئِذٍ أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَأَصَابَ لِسَانَهُ، فَمَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ تَعَالَى. فَقَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ نَحْوَ ذَلِكَ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ، وَنَزَلَ سَعْدٌ إِلَى النَّاسِ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ وَأَرَاهُمْ مَا بِهِ مِنَ الْقُرُوحِ فِي فَخِذَيْهِ وَأَلْيَتَيْهِ، فَعَذَرَهُ النَّاسُ وَعَلِمُوا حَالَهُ، وَلَمَّا عَجَزَ عَنِ الرُّكُوبِ اسْتَخْلَفَ خَالِدَ بْنَ عُرْفُطَةَ عَلَى النَّاسِ، فَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ، فَأَخَذَ نَفَرًا مِمَّنْ شَغَبَ عَلَيْهِ فَحَبَسَهُمْ فِي الْقَصْرِ، مِنْهُمْ: أَبُو مِحْجَنٍ الثَّقَفِيُّ، وَقَيَّدَهُمْ.
وَقِيلَ: بَلْ كَانَ حَبْسُ أَبِي مِحْجَنٍ بِسَبَبِ الْخَمْرِ، وَأَعْلَمَ النَّاسَ أَنَّهُ قَدِ اسْتَخْلَفَ خَالِدًا وَإِنَّمَا يَأْمُرُهُمْ خَالِدٌ، فَسَمِعُوا وَأَطَاعُوا، وَخَطَبَ النَّاسَ يَوْمَئِذٍ، وَهُوَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَحَثَّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ وَذَكَّرَهُمْ مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَتْحِ الْبِلَادِ، وَمَا نَالَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْفُرْسِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ أَمِيرُ كُلِّ قَوْمٍ، وَأَرْسَلَ سَعْدٌ نَفَرًا مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ وَالنَّجْدَةِ، مِنْهُمُ: الْمُغِيرَةُ، وَحُذَيْفَةُ، وَعَاصِمٌ، وَطُلَيْحَةُ، وَقَيْسٌ الْأَسَدِيُّ، وَغَالِبٌ، وَعَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبَ وَأَمْثَالُهُمْ، وَمِنَ الشُّعَرَاءِ: الشَّمَّاخُ، وَالْحُطَيْئَةُ، وَأَوْسُ بْنُ مَغْرَاءَ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ الطَّبِيبِ وَغَيْرُهُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِتَحْرِيضِ النَّاسِ عَلَى الْقِتَالِ، فَفَعَلُوا.
وَكَانَ صَفُّ الْمُشْرِكِينَ عَلَى شَفِيرِ الْعَتِيقِ، وَكَانَ صَفُّ الْمُسْلِمِينَ مَعَ حَائِطِ قُدَيْسٍ وَالْخَنْدَقِ، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ بَيْنَ الْخَنْدَقِ وَالْعَتِيقِ، وَمَعَ الْفُرْسِ ثَلَاثُونَ أَلْفَ مُسَلْسَلٍ، وَأَمَرَ سَعْدٌ النَّاسَ بِقِرَاءَةِ سُورَةِ الْجِهَادِ - وَهِيَ الْأَنْفَالُ - فَلَمَّا قُرِئَتْ هَشَّتْ قُلُوبُ النَّاسِ وَعُيُونُهُمْ وَعَرَفُوا السَّكِينَةَ مَعَ قِرَاءَتِهَا.
فَلَمَّا فَرَغَ الْقُرَّاءُ مِنْهَا قَالَ سَعْدٌ: الْزَمُوا مَوَاقِفَكُمْ حَتَّى تُصَلُّوا الظُّهْرَ، فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَإِنِّي مُكَبِّرٌ تَكْبِيرَةً، فَكَبِّرُوا وَاسْتَعِدُّوا، فَإِذَا سَمِعْتُمُ الثَّانِيَةَ فَكَبِّرُوا وَالْبَسُوا عُدَّتَكُمْ، ثُمَّ إِذَا كَبَّرْتُ الثَّالِثَةَ فَكَبِّرُوا، وَلْيُنَشِّطْ فُرْسَانُكُمُ النَّاسَ، فَإِذَا كَبَّرْتُ الرَّابِعَةَ فَازْحَفُوا جَمِيعًا حَتَّى تُخَالِطُوا عَدُوَّكُمْ، وَقُولُوا لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. فَلَمَّا كَبَّرَ سَعْدٌ الثَّالِثَةَ بَرَزَ أَهْلُ النَّجَدَاتِ فَأَنْشَبُوا الْقِتَالَ، وَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْفُرْسِ أَمْثَالُهُمْ، فَاعْتَوَرُوا الطَّعْنَ وَالضَّرْبَ، وَقَالَ غَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَسَدِيُّ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute